هنالك أنواع من السلوك الفردي والتقاليد الاجتماعية، تدلك على المنظومة الاخلاقية التي يتبناها هذا الشعب او تلك الأمة، واحياناً تنعكس الاخلاق على المنظومة الثقافية والفكرية الموجهة لحياة الناس، كأن تكون حركة السير في الشارع من دلالات الاحترام المتبادل للحقوق، أو من مشاهد إحاطة جدران البيوت بالأسلاك الشائكة والقضبان الحديدية، بمدى القلق من ظاهرة السطو والسرقة، أما من يشاهد في بعض البلدان؛ البيوت الفخمة وأمامها السيارات الحديثة والفارهة، وهي تقع على طرقات مليئة بالحفر والمستنقعات والنفايات المتناثرة، او بالقرب منها أحياء عشوائية بيوتها من الصفيح، فما هي الصورة الاخلاقية التي ترتسم في الذهن لأول وهلة؟.
لعل البعض يقفز بالإجابة السريعة ويلقي بالمسؤولية على الدوائر الخدمية في الدولة لإزالة مظاهر الحرمان والخراب، بيد أن المعروف عن احتياجات الناس المتعددة وايضاً المظاهر الاجتماعية السيئة تفوق قدرات الدولة ومن الصعب استيعابها، منها الفقر المادي والمعنوي، ليس بوسع البلدية او أية وزارة او مؤسسة حكومية أن تستوعب جميع الفقراء وتسد احتياجاتهم المادية، كما ليس بوسعها توفير الغنى المعنوي من مكتبات ومساجد ومراكز تعليم وتربية للاطفال والشباب، إنما هو من اختصاص الإحسان، هذه الصفة الاخلاقية السامية التي تعرّف عليها المجتمع الاسلامي منذ بداياته الاولى في عهد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله.
وقد أكد العلماء على أن الإحسان يمثل قيمة اجتماعية واخلاقية من شأنها الإسهام في تقدم وتطور أي شعب وأمة في العالم، وعلو شأنه يأتي من تفضيله على العدل وهو من أصول الدين، من القيم العليا التي تقرها جميع الاديان لأنها تعارض الظلم، وتضمن للإنسان حقه المشروع، ففي مصنع ضخم، تتوزع الرواتب على العمال كلاً حسب دوره في العملية الانتاجية، فالعامل يستلم بقدره، كما المهندس يستلم بقدره ايضاً، وهذا يُسمى بالحق الفردي، بيد أن الحق الاجتماعي العام سيشكل منطقة الفراغ في كيان الامة.
وجاء الحل في القرآن الكريم الذي قرن العدل بالإحسان، فكما أن العدل، قيمة ثابتة وأصيلة، فان الاحسان ايضاً تكتسب أهمية مماثلة من حيث وجوب تطبيقها؛ {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، وقد بينت النصوص الدينية وتفسير المعصومين لهذه القيمة، بأنها تضمن الحقوق في الحياة، وهي تشمل الانسان وايضاً الحيوانات والنباتات، جميعها تطالب باستيفاء حقها من الرعاية والاهتمام، ومن ثم، يمكن القول؛ أن قيمة العدل لها صفة قانونية ثابتة، بينما للإحسان صفة انسانية واخلاقية بامتياز، وقد أوضح الامام علي، عليه السلام، العلاقة بين العدل والإحسان، بأن "العدل الإنصاف، والإحسان التفضّل".
وعندما يكون للإحسان الصفة الشمولية، فانه سيكون ذو مدخلية مباشرة في منجزات اجتماعية مثل التكافل والتعاون والاستقرار النفسي والمجتمعي، لأن الشريحة الفقيرة ستشعر انها ليست وحيدة في الساحة، وأن تكاليف السكن او العلاج او الدراسة وسائر الاحيتاجات بالامكان توفيرها بمساعدة المحسنين من ابناء المجتمع، وفي غير هذه الحالة فان هذه الشريحة التي تمثل النسبة الاكبر في معظم بلادنا، ستشعر بضغوط هائلة تجبرها للجوء الى طرق ملتوية وغير مشروعة للتخلص منها، حتى وإن كان على حساب استقرار المجتمع.
من هنا حذر القرآن الكريم من مغبة الانكفاء على الذات بحجة أن المال لم يأت بالمجان وإنما بالجهد الجهيد وعلى الطالب بذل الجهود المماثلة للحصول عليه، لذا كشف عن خطر الإفساد والفساد اذا غاب الإحسان، ويأتي بمثال رائع من التاريخ الانساني في قصة قارون الذي كان احد افراد المجتمع اليهودي في عهد النبي موسى، عليه السلام، بيد انه تميّز عنهم فيما بعد بالمال والثراء، فيأتيه الخطاب من السماء: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله اليك ولا تبغ الفساد في الارض}.
فالارصدة المكدسة في البنوك والعقارات والاموال الفائضة عن الحاجة، ليس فقط لا تخدم صاحبها، وربما يفقدها مرة واحدة جميعاً لدى مغادرته الحياة، بل ربما تتحول الى عامل فساد في المجتمع، لأن منطق العقل يقول: أن مصدر القوة (المال) اذا لم ينصرف الى العمل والانتاج ويساعد على تحريك عجلة الاقتصاد ويسهم في تقليص نسبة البطالة، فانه بالقطع سيتحول الى مصدر قلق لهذا المجتمع، وهذا ما لاحظناه في عديد البلاد الاسلامية التي ترى الشعوب بأم عينها أن الاموال تكدس لصالح فئة صغيرة، والأنكى؛ أنها تذهب لتحيي اقتصاد وتخدم شعوب بعيدة في الشرق والغرب وتترك الشباب والعاطلين والجياع يواجهون المعاناة والازمات. ومن هذه البؤرة تحديداً تنبع ظواهر اجتماعية خطيرة مثل تفشّي الرشوة والفساد في الدوائر، وفي الاسواق؛ الغش والاحتيال وغيرها من المنزلقات الخطيرة على أمن واستقرار المجتمع.
من هنا يأخذ الإحسان مفهوماً أبعد من مظاهره المعروفة بتوزيع الاموال والمساعدات العينية على الفقراء والمحتاجين والتكفل برعاية الايتام، الى آفاق حضارية واسعة، يحفظ فيه قيمة العدل من التصدّع وتكرس مصداقيته في النفوس، كما يسهم في التماسك الاجتماعي وفي نشر ثقافة المسؤولية الجماعية إزاء قضية الإصلاح والتغيير نحو الأفضل.
اضف تعليق