يتساءل الكثير عن سبب وجود الفجوة بين النظرية والتطبيق في مجال الفكر، وبين القيم الدينية والسلوك العملي في مجال العقيدة، رغم أن الايجابية؛ هي الانطباع العام عن الدين والفكر وما ينتجه من ثقافة وقواعد للسلوك والتفكير، لاسيما في أجواء مثل العراق، حيث تتبلور الهوية اكثر من أي بلد آخر، وأكثر من أي وقت آخر شهده البلد في تاريخه، ولم تعد تهدده التيارات الفكرية والثقافية "الوافدة" كما السابق، مع كل ذلك وغيره، يبقى السؤال عن وجود حالات عدم التصاق الفكر والثقافة بأرض الواقع؟.
البعض عزا المشكلة الى السياسة وأهلها، وما يفرزه سوء الإدارة والتخطيط والتنفيذ في الدولة التي تتبنى التوجه الاسلامي او تطبق أحكام الشريعة الاسلامية، والحديث عن التناقض بين الواجهة الاسلامية والأداء الحكومي الذي غالباً ما يمثل خروجاً وانحرافاً بعيداً عن روح الاسلام ونظامه في المجالات كافة.
ونظراً للامكانيات المالية والادارية لمؤسسات الدولة، فان بامكانها – اكثر من غيرها- ردم هذه الفجوة، من خلال تقديم النموذج الحسن للمسؤول النزيه والحريص على سلامة وخدمة المواطن ومستقبله، مما يطمئن الاخير بأن ما ينتمي اليه هو الحق، فتنمو العلاقة المتبادلة على اساس من الثقة والاحتكام الى مبدأ الحقوق والواجبات، ولعل من الشواهد على ذلك؛ صدور بعض الفتاوى بضرورة الالتزام بنظام المرور او الحفاظ على الممتلكات العامة وغير ذلك.
أما البعض الآخر، فيعزو الامر الى الفكر والثقافة ذاتهما في إشكالية الطرح والخطاب، بعد تجربة مريرة في خضم التجاذبات السياسية والتنافس المحموم على المناصب، إذ يؤشر البعض الى حالة الالتزام الشديد بالاحكام والتعاليم الاسلامية الى حدّ التطرّف وانتهاج العنف، وفي المقابل؛ حالة الاستسهال الى حد الميوعة والتحلل من كل شيء، ظناً منهم أن هذا الخطاب هو الذي يفتح لهم أبواب القلوب والاذهان ويوجد لهم موطئ قدم في المجتمع، من خلال الشعارات البراقة والوعود المثيرة.
بيد أن الرؤية الاخرى التي لا تلغي دور العوامل المشار اليها في التأثير على الثقافة والسلوك، فانها تنظر الى جذور النشأة التربوية لدى الانسان، فهو قبل أن ينتمي الى هذه الجهة او تلك المؤسسة، كان ينتمي الى الأسرة والبيت والعائلة المكونة من أب وأم وإخوة وأخوات، وهكذا تتسع دائرة الاقارب ضمن المجتمع الأسري الصغير.
إن كيان الأسرة أصغر بكثير من كيان المؤسسة الثقافية او المؤسسة الحكومية، فهو يقع ضمن جدران أربعة بحدود واضحة، مهما كبرت المساحة، بيد أن التأثير على البناء النفسي والذهني أعمق بكثير مما يسعى اليه الآخرون، مهما أوتوا من قوى وامكانات ونظريات.
وبما أن علماء الاجتماع أكدوا منذ فترة طويلة على دور الأسرة في بناء الكيان التربوي، وفي صياغة شخصية الانسان منذ نعومة أظفاره، أجمعوا على التأثير البالغ لهذا العامل على نشوء عادات وسلوكيات الافراد الموجودين ضمن سياقات عمل المؤسسات الثقافية او السياسية، فالتطرف او الليونة او النزعة للعنف والذاتية وغيرها، إنما هي انعكاس للمنهج التربوي الموجود في ذلك البيت وتلك الأسرة، وربما تصنف هذه الاسرة ضمن الطبقة المتوسطة او الثرية، وربما تصنف تلك ضمن محدودي الدخل او من هم تحت خط الفقر ومن سكان العشوائيات.
فاذا كان الواحد منّا يطالب بسلوك معتدل وعقلاني للشباب وحتى الكبار، عليهم الالتفات الى عوامل التنشئة والتربية، فهذه العوامل التي هي تؤهل الرجل لان يتخذ قرارات او خطوات معينة تتشكل منها ظواهر اجتماعية وسياسية، مثل الفساد والعنف والجريمة وحتى الصنمية في التعامل مع الشخصية الرمز، بغض النظر عن هوية هذا الرمز؛ سياسية كانت أم فكرية أم دينية.
ورب سائل يستفهم عن الفائدة من الالتفات في الوقت الحاضر، وقد جُبلت شريحة من المجتمع على العادات السيئة والطباع المذمومة؟ وهل ستغيرهم أسرهم أو والديهم؟
الجواب؛ بالقطع كلا، فهؤلاء لن يكونوا المقصود، إنما أبناء الجيل الجديد، يكفي أن نتصور خلال ثلاثة عشر سنة من عمر العراق من دون ديكتاتورية صدام، كم طفل وشاب يافع، اصبح اليوم رجلاً بكامل قواه العقلية والعضلية وشارك في صنع ديكتاتوريات جديدة؟
الزمن يمر بسرعة لا تصدق، وهي تمثل فرص تمرّ كمر السحاب، فالنشئ الجديد بحاجة الى آداب وأخلاق وعادات حسنة مدعومة بقيم انسانية واخلاقية، مثل احترام الآخرين وحب الخير لهم، والتعاون والتواصل وغيرها كثير من الفضائل التي طالما حفلت بها كتب الحديث والسيرة المطهرة للمعصومين، علهيم السلام، فالى جانب تعليم الاحكام والتعاليم الدينية، كانوا يردفونها بتعليم أداء التحية والسلام وطاعة الوالدين وتوقير كبار السنّ، وحفظ اللسان واليد عن الزلل، حتى لايكونوا فريسة التيارات الفكرية المنحرفة، ولا الاوساط الحاكمة ومغرياتها ومنزلقاتها.
وفق هذا المنهج تخرّجت شريحة واسعة من الاصحاب والتابعين، ثم علماء الدين في التاريخ القديم والحديث، وما تزال المسيرة متواصلة ولو بعدد قليل.
اضف تعليق