أثبتت ملامح العصر وصفاته، أننا نعيش في عالم موبوء بالجريمة، تبدأ بالجرائم التي تقترفها أيدي السياسيين الكبار (في الدول الكبرى)، الذين يتحكمون بمصير الانسان، ولا تنتهي بأبسط الجرائم الفردية التي تلحق الأذى بالناس من دون وجه حق، هذا من جانب، وأثبت العلم المتخصص أن انتعاش الجريمة وانتشارها في عالم اليوم يعود الى التمهيد الأول لها عبر الحاضنة الأولى التي ينشأ بها الانسان، ونعني بها الأسرة.
وليس هناك مبالغة في دور الأسرة وقدرتها على تغذية الانسان بعناصر الخير أو الشر، فالأسرة كما يعرفها علم الاجتماع، هي الخلية الأساسية في المجتمع وأهم جماعاته الأولية، تتكون هذه الخلية من أفراد تربط بينهم صلة القرابة والرحم، وتساهم الأسرة في النشاط الاجتماعي في كل جوانبه المادية والروحية والعقائدية والاقتصادية، هذا الكيان المهم والأساسي أصبح اليوم يعاني العديد من المشكلات والأزمات التي تهدد البناء السليم للأسرة ولأسباب مختلفة، ولعل من أهم واخطر هذه المشكلات هي تفاقم ظاهرة العنف الأسري.
وعندما يفتح الطفل حواسه ووعيه الأول على أسرة مفككة، لا تعبأ بالقيم، ولا تهمها الأخلاق والأعراف، ولا تفكر بالعيش السليم، ولا تضع حرمة لحقوق الناس، فإن واقع أسري من هذا النوع يكون سببا كافيا لصناعة طفل منحرف، يكبر معه القبول بالخطأ خطوة بخطوة، ويتعايش مع الشر وكأنه أمر لا غضاضة فيه، ويرى السرقة وارتكاب الجريمة بأنواعها أمرا طبيعيا، عندما يفتح عينية على وضع عائلي لا يضع حدودا لمشاعر وحقوق الآخرين.
ولعلنا لا نخطئ عندما نقول أو نؤكد ما يقوله علماء الاجتماع والنفس، من أن كل عنصر من عناصر الاسرة له دوره في التأثير على الطفل، ولكن هنالك العنصر الأهم من بين جميع أفراد العائلة، ونعني بها الأم، فهي تمتلك قوى خفية وتكاد تكون ساحرة في التأثير على الاجواء الأسرية برمتها، بمعنى يمكن للأم أن تصنع عائلة ناجحة مجتهدة منشغلة بالابداع والانتاج الراقي، وهنالك العكس تماما، حيث تساعد الأم على اثارة المشاكل وتصنع الظروف التي تساعد على صناعة المجرم واقتراف الجريمة، وقد تفوق الأم في هذا الدور على جميع عناصر العائلة، بما في ذلك دور الأب الذي قد ينكسر أمام دور الأم اذا كانت امرأة صالحة.
لهذا السبب ينصح العلماء المعنيون، والتربويون ورجال الدين وفلاسفة التربية السليمة، بتحصين المرأة الأم أولا من الانحراف لحساسية دورها في الاسرة والمجتمع، كونها تمثل بوابة الدعم النفسي والمعنوي الكبير لأفراد العائلة، أطفالها ذكورا أو إناثا، بل حتى الزوج، هناك قدرة كبيرة للزوجة على ترويض نزعات الشر التي تكمن في أعماقه وشخصيته، وعندما تتوافر ركائز الدعم النفسي والمعنوي لأفراد الأسرة، فإن بوادر استقرارها ونجاحها وتميزها عن العائلات الاخرى، يكون بالغ الوضوح والتأثير.
سجون الأطفال تمهّد للجريمة
هناك دول تبني سجونا للأطفال بدلا من المدارس، وتسمى هذه السجون (بسجن الاحداث) واحيانا (سجن الاصلاح)، ولا نعرف كيف يمكن ان يكون السجن مكانا للاصلاح، لاسيما اذا جمع بين الأطفال والكبار المتمرسين على الجريمة والبارعين في دروب الانحراف، علما أن حكومات هذه الدول لا تهتم بالطفولة ولا بالاسرة ولا باحتياجات المجتمع الخدمية والتربوية والتعليمية والصحية، لذلك تصبح الأسرة مكانا موبوءا بالشر.
ولا يتوقف التقصير على الحكومات فقط، وهي التي تجيد بناء السجون بدلا من المدارس، بل هناك من يرى أن مستجدات العصر (التكنولوجي)، قد ساعدت بنمو الجريمة ومضاعفة أعداد المجرمين الى حد كبير، إذ يرى بعض الخبراء ان التقدم والتطور الكبير الذي أسهم بتغير نمط الحياة العامة، قد ألقى بظلاله على العلاقات والوحدة الأسرية التي تأثرت بشكل سلبي كبير حتى باتت تعاني الانحلال والتفكك و ازدياد حالات الطلاق وغيرها من المشكلات الأخرى. فقد أثبتت دراسات عدة أن أكثر المجرمين والمنحرفين ينتمون إلى أسر مفككة، هذا بالإضافة الى باقي العوامل الأخرى (الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ودينية) أسهمت بتغير طباع وعادات الإفراد في المجتمع و كانت دافع مهم لارتكاب العديد من الجرائم الأسرية.
اذاً هنالك ظروف معينة تدفع بالأسرة نحو الجنوح صوب الخطأ، وهنالك عوامل تسهم الى حد كبير في تحوّل الأسرة من دورها التربوي الآمن، وصناعتها لشخصية متوازنة ذكية ومستقرة، الى دور تخريبي للشخصية، بسبب حالات العنف التي يتسبب بها الأب والأم، وربما يشترك فيها جميع أفراد الأسرة، فيغدو الجو المشحون بالكراهية والبغضاء أمرا معتاد ومقبولا، والجميع يسهمون به ولا يرفضونه.
لدرجة أننا يمكن أن نصف الأسرة في المجتمع المتأخر، بأنها مصنع للطفل المنحرف، وغالبا ما تقوم بدور التمهيد والتهيئة لصناعة كبار المجرمين، وقد أثبتت الدراسات والبحوث المتخصصة، علاقة طردية بين طفولة المجرم العنيفة، وبين تشكيل شخصيته التي صارت تنحرف نحو الجريمة، منذ أوائل طفولته الحافة بالعنف، بمعنى كلما كانت الحاضنة منحرفة وعنيفة، كلما كان مستقبل الطفل غارقا في الجريمة والتطرف والانحراف.
تجفيف منابع العنف الاسري
من أخطر ما يحدث في مجال العنف الأسري، هو الصمت تجاه نتائجه الخطيرة، والنظر الى هذه الظاهرة بكل ما تحمل من مساوئ وكأنها وضع عائلي او مجتمعي طبيعي!، فهناك بالفعل من ينظر الى العنف الأسري على أنه وليد ظروف خاصة لا علاقة لها بالمجتمع وبالوضع السياسي العام في الدولة، وهذا الموقف او النظرة هي نوع من الهروب من المسؤولية، لأن العنف الأسري كما يؤكد الخبراء هو محصلة للإهمال الحكومي والمدني وعدم الاهتمام بثقافة المجتمع، وعدم انتشاله من براثن التخلف والتطرف والانحراف.
لذلك يبقى الهدف الأهم – أو يفترض ذلك- للحكومات وللمنظمات المدنية المعنية بالمجتمع، هو كيفية تخليص الأسرة من العنف، وهناك بطبيعة الحال اجراءات عملية وخطط نظرية يمكن وضعها من لدن خبراء ولجان تختص بمكافحة هذا النوع من العنف، والشروع بالقيام بحملات منتظمة لمكافحة الانحراف والتطرف والجنوح نحو الجريمة، ونشر حالة من الامان والاطمئنان في الاجواء الاسرية، من خلال تنمية الوعي لأفراد الأسرة.
إن وضع خطة عملية لتجفيف العنف الأسري، ينبغي أن يبقى هدف النخب كافة، الرسمية والمدنية التطوعية، على أن يتم وضع خطط معدّة مسبقا لتحقيق هذا الهدف، تنطوي على خطوات مناسبة قابلة للتطبيق ويمكن قبولها من لدن العائلة، من هذه الخطوات:
- العمل المنظّم على رفع المستوى المعيشي للمجتمع والأسر كافة.
- مشاركة النخب الدينية والثقافية والسياسية بوضع خطط مشتركة لمد يد العون للأسرة كي تتخلص من مظاهر العنف وأسبابه.
- تنظيم ندوات خاصة بتنمية وعي الأم تحديدا وأهمية دورها في صناعة طفل متميز.
- صناعة أجواء تساعد على الوئام في الأسرة، وهذه مهمة اجتماعية يتكفل بها المنظمات التطوعية.
- اعداد الطفل اعدادا جيدا في المدرسة اعتبارا من المرحل الأولى الابتدائية والمتوسطة صعودا.
- خلق نوع من التعاون بين المدرسة والاسرة لتحقيق هذا الهدف
- عدم زج الاطفال في السجون، وعدم وضعهم مع المجرمين الذين يفوقونهم عمرا وتجربة، من اجل منع تلوثهم بأفكار الجريمة المنظمة.
- اذا استوجبت معاقبتهم قضائيا بالسجن ينبغي عزل الاعمار الصغيرة عن الكبيرة حتما.
- إعطاء محاضرات اخلاقية في السجون لدعم العقول المسالمة ومنع اليأس عنها.
- العمل الجماعي الرسمي والشعبي والنخبوي على وضع الخطط العملية لمكافحة هذا الداء الخطير وحماية المجتمع والاطفال منه على وجه الخصوص.
اضف تعليق