اليوم أريد أن أرسل برسالة إلى الآباء والأمهات الذين لا يزلون بعيدين عن الأعمار الكبيرة، أنتم جميعا مهدَّدون بالوحدة في أواخر العمر وبالفراغ، وبالضجر، أما الأولاد (ذكور وإناث) فإنهم مشغولون بحركة الحياة، لا يمكن أن يتخلوا عن عوائلهم وأطفالهم، نعم هم يزورونكم ويقومون بروابط صلة الرحم، ويقضون احتياجاتكم، ولكن...
وحيدان أنا وهي، لا ثالث معنا، رحل الأولادُ والبنات، كلٌ مضى إلى حياته، إلى بيته وعائلته، الابناء مع زوجاتهم وأطفالهم، والبنات مع أزواجهنّ وأطفالهن، أولادنا الخمسة كبروا، تزوجوا وعندما اكتست أجسادهم بالريش ونبتت القوادم في الأجنحة طاروا بعيدا....
وهكذا بلغنا حافة السبعين، الجسد لم يعد كما كان والبصر كذلك بات أقلّ حدّة، ونبضات القلب اخذت تتضاءل وتضعف كأنها ضوء شموع في طريقها للخفوت الأبدي.
أنا وزوجتي وحيدان ننظرُ إلى بعضنا كأننا لم نرَ بعضنا سابقا، غريبان في بيت غريب، كل الحوارات التي تجري بيننا لا تملأ الصمت الجائع، كلمات اللغة الفصحى واللهجة العامية تعجز عن ملء فراغ الصمت الشاسع، فنلجأ إلى النظرات، تلتقي عيوننا، نحاول بهما أن نتكلم، أو نتحاور، كي نملأ فراغ الصمت، أسمعها تتفوّه بصوت واهن خفيض، تقول لي: علينا بالصبر، لا تجزع فالأولاد قادمون....
أوقعني المرض طريحا في الفراش، لأول مرة يتمكن مني المرض بهذه الطريقة، يمنعني من الحركة، أعود إلى شبابي، أستنجد بقوّتي، أدعو ذلك الجسد القوي أن ينقذني من هذا السكون السافر، أنا وزوجتي وحيدان، نعيش في بيت كثير الفراغ، وفيه غرف تكفي لأكثر من عائلة ولأطفال كثيرين، هذا البيت فيه ظمأ شديد لصراخ الأطفال وزعيقهم وحركتهم التي لا تهدأ، صبرنا على هذا الفقر الإنساني المدمِّر، لأننا لا نملك خيارا آخر.
ولكن يُصعب على المرء أن يتحمل المرض وآلامه عندما يكبر في السنّ، يكفيه أنه يعاني من وحشة السكون وغياب الأنفاس والاصوات الناعمة للأطفال، البيت الذي لا أطفال فيه لا حياة فيه، وغياب الحنان الإنساني والعاطفة الإنسانية أخطر شيء على الإنسان في أواخره، لدرجة أن كلمة واحدة بصوت واضح قد تنقذه من غفوة قاتلة.
أنا جربتُ المرض الذي يحرمك من النوم حتى الصباح، ذلك المرض الذي لا يسمح لك بالنوم لحظة، المرض الذي يجبرك على أن تلزم الفراش ويمنعك من الحركة، وفي نفس الوقت يجعلك أسرع إنسان وأنت تتوجه إلى الحمام لتقذف ما في أحشائك، وهكذا هنَ الجسد وبات كسيرا، وفقدتُ من وزني الكثير في أيام ثلاثة، زوجتي أكثر ثقلا مني في حركتها، تذكرتُ أننا أبوان لابنتيْن فيهما من الوفاء ما يكفي لنا، ولذكور ثلاثة يحبهم الله.
يُقال إنك عندما تُحسن تربية أبناءك فأنت تُحسن لنفسك قبل أن تُحسن لهم، لأنك تقوم بزرع الوفاء في قلوبهم ونفوسهم وهم لا يزالون صغارا، وعندما تصبح أنت والأم في عمر طاعن، وتهجم عليكما الأمراض وكثرة الفراغ والضجر وقلة الحركة وكثرة الاحتياج، حينذاك ستجدهم أقرب إليك من أي إنسان آخر، هم بالفعل يفعلون ذلك، لكنهم ملتزمون ببيوت وعوائل وأزواج وزوجات وأطفال، إنهم ليسوا متفرغين لكما حتى لو بلغتما من العمر الكثير...
شعرتُ بأنني أحتاج إلى حساء دافئ، أو أي سائل فيه قليل من الدفء، أعالج به الشيء الغريب الذي تجمّعَ في حنجرتي ومنعني عن الكلام بل حتى الهمس الضعيف صار صعبا، أعالج به هذا الاضطراب الهائل الذي عصف بمعدتي وأمعائي، لا أستطيع الحركة وزوجتي ليست أفضل حالا مني.
أتذكر أن آباءَنا مرضوا في بيوتنا، قمنا بما يجب لهم، وأخيرا ماتوا في بيوتنا وأقمنا لهم المآتم في بيوتنا أيضا، فلماذا أصبحنا الآن وحيديْن، بدأ الليل يهطل علينا بظلامه، طلبتُ كف زوجتي، أمسكتُ بها كمن يتشبث بالأمل الأخير وغفوت، رأيت ابنتيَّ تقتربان مني، واحدة جلست عند يميني وأخرى عند يساري، شعرت بجسدي يدفَأ وأخذ يتسلل إليه دفء حنون، وأخذت ابنتي الكبرى تتحدث إليّ وكأنني في سنّ الثلاثين.
بدأتُ اسمع صوتها جيدا، أنا لا أحلم، إنها الحقيقة التي لا شكّ فيها، ابنتي الكبرى تقول لي نحن معك ولن نتركك بعد الآن، ابنتي الصغرى تمسك بكفي، حنانها يسري في عروقي، يشتعل جسدي دفئًا، يفرُّ المرض هاربا، يصحو جسدي، أنهض على كلمات ابنتي الكبرى وهي تسألني، قل ما تريد يا أبي، اطلب ونحن ننفذ، ماذا ينقصك، قل أي شيء.
في الحقيقة كنتُ اسمعها جيدا، واتذكر أنني سألتها، ألمْ نقم بما يجب معكم، قالت نعم وأكثر، قلتُ لها لماذا بقينا وحيديْن أنا وأمك في بيتنا الكبير، قالت هي سنّة الحياة يا أبي، لدينا أطفال يجب أن يكبروا كما كبرنا نحن، هززْتُ لها رأسي موافقا، فهي قالت الصحيح فعلا.
سمعتُ ابنتي الصغرى وهي تقرّب صوتَها من سمعي، أبي أنت وأمي معنا، في قلوبنا، لن تغيبا عنا مطلقا، أتذكرُ أنني رفعتُ ذراعيّ وضممتُ ابنتيَّ كلاهما إلى صدري، وقلتُ لهما، الفراغ الذي يملأ البيت ويملأ حياتنا، هذا هو الشيء الذي نعاني منه، نشعر بالوحدة القاتلة، كل شيء خطر في بالي إلا هذه الوحدة، لم يخطر في ذهني أو بالي سابقا ما أعيشه اليوم من عزلة وسكون وركود إجباري لا يمكن التخلّص منه.
اليوم أريد أن أرسل برسالة إلى الآباء والأمهات الذين لا يزلون بعيدين عن الأعمار الكبيرة، أنتم جميعا مهدَّدون بالوحدة في أواخر العمر وبالفراغ، وبالضجر، أما الأولاد (ذكور وإناث) فإنهم مشغولون بحركة الحياة، لا يمكن أن يتخلوا عن عوائلهم وأطفالهم، نعم هم يزورونكم ويقومون بروابط صلة الرحم، ويقضون احتياجاتكم، ولكن هذا لا يعني أنهم سينشغلوا بكم فقط، ويتركوا أطفالهم.
انتهى الحلم، فتحتُ عيوني، لم أرَ ابنتي الكبرى ولا الصغرى، لم يكونا إلى جانبي، كفّاي خاليتان من كفَّيْهما، بالقرب مني زوجتي فقط، أسمع صوتها الواهن وهي تتلوا آيات من القرآن، ثم تدعو لأبنائها الثلاثة وابنتيْها، بالأمن والسعادة والسلام.
اضف تعليق