لنفترض جدلاً القبول بما يدعو اليه البعض بأن "الناس لا ينفع معهم المداراة"! فاذا وقف كل شخص عند حدود نفسه وذاته في أي قضية، صغيرة كانت أم كبيرة، هل نشهد علاقات سليمة بين الافراد في السوق والمدرسة والدائرة الحكومية وحتى في الشارع، بل حتى داخل البيت الصغير؟...
"أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض".
رسول الله، صلى الله عليه وآله
لم يخرج العلماء والفلاسفة من جدلية العلاقة بين الفرد والجماعة فيما يتعلق بالأخلاق والفضيلة، فقيل بتأثر الفرد بأخلاق وعادات مجتمعه، وعدم وجود قيم ثابتة يسير عليها، إنما هي صفات تولد معه وتواكب حياته، ولا دور للتربية والتعليم في نشر الأخلاق وتكريسها في الحياة.
أما النظام الاجتماعي في الاسلام فهو يقرّ بدور الجماعة في صياغة ثقافة وأخلاق معينة تفرض نفسها على السلوك الفردي، كما يحمّل الفرد الحر والمُريد، مسؤولية الاختيار الصحيح لمنظومة الاخلاق الحسنة في ضوء هذا النظام المستمد قوته ومصداقيته من تعاليم السماء، وعندما ينطلق البناء الأخلاقي من الفرد كأحد لبنات المجتمع، فانه سيترك آثاره الايجابية السريعة على انحاء الكيان الاجتماعي، ومن الصفات ذات التأثير السريع في عملية البناء هذه؛ المداراة.
المداراة.. التفهّم
لغةً؛ قالوا في معجم المعاني إنها: ملاينة، وملاطفة، واستخرجوا من هذه المفردة فعل "دَرَى"، بمعنى الدراية والعلم؛ "درى خبايا الأمور وتوصل الى معرفتها، علم بها".
وهذا يكوّن لنا مفهموماً اصطلاحياً بأن من الفضيلة تفهّم الطرف المقابل على سلوكه وتصرفاته بما يُشعره بأنه يتعامل معه مع كامل العلم والمعرفة بتفاصيل حاله وظروفه، ولو بشكل نسبي، وهي من الصفات الاخلاقية المحورية الداعية الى التماسك، تدور حولها صفات فرعية منها؛ حسن الظن، والصبر، والعطاء، ونلمس ضرورتها، بدءاً بالحياة الزوجية، والعلاقات بين الاصدقاء، والاقارب، وحتى العلاقة بين الموظف والمراجع، ثم القائد والمواطن.
بيد أن العلماء ذكروا بأن "القضية ليست بهذه السهولة، لأن كثيراً من الناس قد تأتي توقعاتهم او تصوراتهم في غير محلها، فمن الصعب التعامل مع شخص بطلبات متعددة"، (بحوث أخلاقية- آية الله السيد جعفر الشيرازي)، بل ربما تأتي متعارضة مع العقل والمنطق، متشبثة بروح الأنا والمصالح الخاصة، كما لو يريد شخصاً في أزمة معينة أن يتلقى الاعتذار من الآخرين، وفي الوقت الراهن تبلغ درجة التفسير والتأويل للمفاهيم وحتى النصوص الدينية حداً خطيراً يوهم البعض أنه محق ومخوّل بصناعة الحق لتعضيد موقفه، وتحديداً ما يُنشر ويقال هذه الايام على مواقع التواصل الاجتماعي حول قضايا متعددة.
وتشتد الحاجة الى المداراة عندما تكون معالم الحق واضحة، ومن الصعب تجاوز من هو في جانب الباطل، كما سقط الكثير في هذا الخطأ المعرفي في عهد رسول الله، فكانوا يلومونه، صلى الله عليه وآله، على جمعه المنافقين حوله، او ذاك الشخص الضيق الأفق الذي تجرأ و وقف وجهاً لوجه أمام رسول الله ليمنعه من حضور جنازة عبد الله بن أبي، المنافق المعروف في المدينة، وقال له: ألم ينهك الله من الصلاة على جنازة المنافقين؟! وفي التاريخ نعرف أن ابن ذلك المنافق كان من خيرة المؤمنين والمقربين من رسول الله، فكانت مبادرة النبي لها مصلحة اجتماعية ورسالية بليغة، وهو المسدد من السماء، وفي الوقت الحاضر، نسمع من البعض تساؤلات عن سبب إبقاء النبي الأكرم لبعض الزوجات اللاتي آذينه في حياته، وعدم ابعادهنّ بالطلاق والتخلص منهنّ؟!
إنها الحكمة البالغة التي تأتي من النبي الأكرم، كما جاءت في سيرة الأئمة المعصومين من بعده، ومن ثم العلماء والمصلحين، من خلال صفة المداراة والتفهّم للظروف الاجتماعية والنفسية لإفراد المجتمع والأمة.
بلى؛ "اذا تعلّق الأمر بحكم شرعي –يقول السيد جعفر الشيرازي- فيجب تنفيذه، سواء رضي الطرف المقابل أم لم يرض، لكن هناك احياناً اموراً وقضايا عادية في المجتمع تتطلب المرونة"، ويمكن تحويل الفعل العنيف، او القول السيئ، الى فرصة لكشف الحقائق والتعرف على مستويات استيعاب وفهم الافراد فيما بينهم، فالناس ليسوا سواسية في فهم الامور، وحتى في الايمان والقدرة على توظيف العقل في الوقت المناسب.
ولنفترض جدلاً القبول بما يدعو اليه البعض بأن "الناس لا ينفع معهم المداراة"! فاذا وقف كل شخص عند حدود نفسه وذاته في أي قضية، صغيرة كانت أم كبيرة، هل نشهد علاقات سليمة بين الافراد في السوق والمدرسة والدائرة الحكومية وحتى في الشارع، بل حتى داخل البيت الصغير؟
فرصة للإصلاح وليس التمادي
في الإجابة على دعاة الرد بالمثل، والمتشائمين من المداراة، بالإمكان ملاحظة ظاهرة جديرة بالانتباه والإشادة داخل المراقد المقدسة المزدحمة بالزائرين، فلا أجد رد فعل سلبي من أحد على من يدفع تربة مصلي برجله سهواً، او التدافع الشديد حول الأضرحة، او الارتطام، بل الملاحظ الاعتذار من الطرفين، والتسامح، والشكر، علماً أن نفس هؤلاء الناس الزائرين ربما يكونون بشكل آخر لمجرد خروجهم من المراقد المشرفة، ولا يقطعوا سوى أمتار فقط.
السبب؛ النفحات الروحانية لتلك المراقد، وما تشيعه من روح الأخلاق الحسنة على الزائرين المؤمنين، والأمر الآخر الاكثر أهمية؛ القابلية الفطرية على تنمية هذه الصفة الراقية في النفوس بما يجعلنا نتمنى استمرار هذه الحالة الرائعة الموجودة داخل حرم الامام الحسين –مثلاً- الى الشارع والسوق وداخل البيت، وفي كل مكان، وهذا يمثل فرصة ثمينة للإصلاح وتقويم السلوك الفردي ومعالجة الكثير من الظواهر السلبية التي يشكون منها الجميع.
في نفس الوقت يغلق المداراة الباب بوجه المتمادين بممارساتهم السيئة مستغلين طيبة الطرف المقابل، فيكونون بمنزلة القاطع لسبيل المعروف، والمعارض لمسيرة الإصلاح في المجتمع، بل والساعي للفوضى وإلحاق الضرر والخسارة بالنسيج الاجتماعي المتضرر هو بالأساس بفعل عوامل خارجية مثل؛ سياسات الحكام والفساد وعيون اصحاب المصالح خارج الحدود، ومن ثمّ نعرف من يكون الى جانب الإصلاح ومن يكون الى جانب الإفساد.
اضف تعليق