ما هو السر وراء هذه الفوضى التي يعيشها العراقيون سياسياً، واقتصادياً، وفكرياً وحتى عسكرياً؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تفتح لنا بوابة كبرى للإجابة على تساؤل آخر طالما تساءل عنه العراقيون، وغير العراقيين الا وهو: متى تنتهي هذه الفوضى؟ ومتى تتحسن أحوال العراق؟...

أواصل رحلة سبر غور المجتمع العراقي للإجابة عن السؤال المحوري لهذه السلسلة: ما هو السر وراء هذه الفوضى التي يعيشها العراقيون سياسياً، واقتصادياً، وفكرياً وحتى عسكرياً؟ الإجابة عن هذا السؤال قد تفتح لنا بوابة كبرى للإجابة على تساؤل آخر طالما تساءل عنه العراقيون، وغير العراقيين الا وهو: متى تنتهي هذه الفوضى؟ ومتى تتحسن أحوال العراق؟ 

للإجابة عن هذه الأسئلة وكثير مما يتولد عنها من أسئلةٍ أخرى، علينا أولاً أن نفهم طبيعة المجتمع العراقي وكيفية تفاعله مع الزلزالَين اللذان ضرباه في بداية الألفية الثالثة (الاحتلال والتكنولوجيا). سبق وأوضحت في كتابي الأخير مع زميلتي البروفسورة كيلفاند (ثقافة التصلب: منظور جديد لفهم المجتمع العراقي) ان المجتمع العراقي هو من أشد المجتمعات في العالم تصلباً. 

بمعنى أن الفرد العراقي (لأسباب تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية ودينية وديموغرافية) تعرض لكم هائل من الضغوط الاجتماعية التي جعلته يفقد فردانيته ويضطر معها للاعتماد على شبكات متعددة من العلاقات والانتماءات الاجتماعية التي لم تجد مؤسسة عُلوية وعابرة للشبكات والجماعات (كالدولة ومؤسساتها) قادرة على ربطها معاً. هذه الضغوط صلّبت الشخصية العراقية وأفقدتها مرونتها. 

ونظراً لظروف الفوضى والقلق الأمني على مدار عقود طويلة لم تبدأ فقط مع الاحتلال الأخير للعراق، أضطر العراقي للتشدد في كثير من معاييره الاجتماعية التي يعتقد أنها قد توفر له الأمان والاطمئنان من الفوضى. لذا بات العراقي (لا أقصد الجميع) مغالياً في قبليته، وتدينه، وطائفيته، وطقوسه، وحبه وكرهه، وفرحه وحزنه.

مجموعة مستقلة

بات العراقي يطلق النار في الفرح، ويشجو في الحزن. أغانيه مليئة بالقتل والنار والتكسير، ولغته مليئة بالعنف والاستعارة والتبرير. يضرب رأسه «بالقامة» حينما يبكي، ويتعوذ من الشيطان حينما يضحك. صار العراقي شكاكاً الى الدرجة التي جعلته أقل شعب في العالم يثق بالآخر الغريب أذ أن أقل من واحد من كل عشر عراقيين أجاب أنه يثق بالآخر في آخر استطلاعات الرأي العام الذي أجرته المجموعة المستقلة للأبحاث قبل أسبوعين!

ولكي نفهم أبعاد هذا التشتت الذي قاد للتصلب الاجتماعي في العراق، أطرح عليكم سؤالاً بسيطاً: في أي مجتمع تعيش حالياً؟ ستتوزع الإجابات غالباً على عدة مستويات كلية وجزئية. فمثلاً كثيرون يمكن أن يقولوا أننا في مجتمع عراقي اعتمادا على مفهوم المجتمع-الدولة.

آخرون يمكن أن يقولوا أننا في مجتمع إسلامي، أو شيعي، أو سني اعتمادا على مفهوم المجتمع-الايدلوجيا. مجموعة ثالثة قد تقول لك أنهم يعيشون في مجتمع كوردي أو عربي. آخرون يمكن أن يقولوا لك أننا نعيش في مجتمع عشائري. لا بل أنك قد تجد من يقول أنه مواطن عالمي أو أنه يعيش في مجتمع افتراضي.

ان هذا يعكس مدى تعدد شبكات العلاقات الاجتماعية وحاجتها الى قوة تجسيرية. كما أنها تعكس خطأ المفهوم الشائع، ليس فقط عند العراقيين، بأن المجتمع يعني مجموعات بشرية متجانسة. والحقيقة أن كلمة مجتمع في جذرها اللغوي في العربية أو اللاتينية تعني «جمع المختلفين وليس المتجانسين». أن أصل كلمة مجتمع SOCIETY  الإنكليزية هو SOCIUS في اللاتينية والتي تعني الحليف اللاروماني.

أما في العربية فأن جذر الكلمة هي «جمع» والتي تعني بحسب أبن منظور في لسان العرب (جمع الشيء عن تفرقه…أو جُمع من ههنا وههنا).

اعتمادا على هذا المفهوم، فأن المجتمعات هي تجمعات (كونفدرالية) للبشر أن صح التعبير، وأن ما يجعل البشر يجتمعون هو ادراكهم للحاجة الوظيفية للاجتماع ببعضهم من خلال شـــــــــــكات من العلاقات الاجتماعية (سواءً يصيغه مجموعات عرقية أو دينية أو عشائرية أو وطنية).

فالإنسان في النهاية حيوان اجتماعي، وليس مجتمعي social not societal كما يقول مايكل مان Michael Man أي أنه يميل للاجتماع بالآخرين لبلوغ أهداف مشتركة وليس لتكوين مجتمعات كلية، هذا يعني ان الفرد ليس مجرد لبنة في بناء كلي كما يريد البعض أقناعنا، بل هو ذرة من مجموعة ذرات متحركة ومتفاعلة مع بعضها البعض.

عوامل خارجية

هذا التفاعل يُنشىء بالتبعية والضرورة علاقات قوة تؤثر في بعضها البعض فاذا أختلت علاقات القوة هذه بسبب عوامل خارجية أو داخلية -كما حصل في زلزالَي الاحتلال والتكنولوجيا- اللذان ذكرناهما، فأن ذلك سيقود الى فوضى لا تستقر حتى تستقر تلك الذرات على منظومات جديدة من علاقات القوة. من هنا فأن اندثار جماعات (أو أفراد) معينة وبروز أخرى، واختلال المعايير الطبقية، وتغير القيم الفردية والمعايير الجماعية أنما هي مظاهر طبيعية جداً في ظل انتهاء معادلات القوة الاجتماعية السابقة وحلول جديدة محلها.

ان بروز ما يعتقده البعض من العشيرة على حساب الدولة، والطائفة على حساب الوطن، والمحبس على حساب الرباط، والشروكي على حساب التكريتي، والانفلات على حساب الالتزام، ما هي الا تجسيد واقعي لتغير علاقات القوة في المجتمع العراقي وبغض النظر عن أي تقييم قيمي لصحة و خطأ، أو واقعية وكذب هذه المظاهر.

الثابت أن هناك تبدلات وتغيرات كبرى حدثت -وما زالت تحدث- خلال العقدين الماضيَين تنذر بنهاية عراق عرفناه وقدوم عراق لا نعرفه. وبما أن العرب تقول «المرء عدو لما يجهل» فلا غرو أن معظم العراقيين يشعرون بالقلق مما هو آت ويتساءلون متى يستقر العراق؟

أقول سيستقر متى ما تشكلت واستقرت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعسكرية وهو ما سأتناوله في قادم المقالات.

اضف تعليق