المدافعين عن السياسة الصناعية اليوم هم غالبا نفس الأشخاص الذين طرحوا الفكرة لأول مرة قبل أكثر من أربعين عاما، في محاولة لإنقاذ الديمقراطيين في مواجهة اقتصاد ريغان. وفي ذلك الوقت، كان الأمر منطقيا. ولكن الآن، يبدو أنهم غير راغبين في مواجهة البنوك، أو المقاولين العسكريين أو أباطرة التكنولوجيا...
بقلم: جيمس جالبريث

سيراكوزا، إيطاليا- خلال "القمة" الأخيرة التي استضافتها برلين، أعلن خبراء اقتصاديون بارزون من يسار الوسط عن "إجماع جديد" بخصوص السياسة الصناعية. ثم نشر المؤرخ الاقتصادي بجامعة كولومبيا، آدم توز، إعلانهم المشترك بالكامل، وأثنى على كونه ينص على اتفاق شامل على مبادئ السياسة الاقتصادية والصناعية، وعلى الطريقة التي ضُمنت بها هذه المبادئ في قراءة المخاطر السياسية والجيوسياسية في الوقت الراهن."

ووفقاً لإعلان برلين، تنقسم تلك المخاطر إلى نوعين. هناك مخاطر حقيقية مثل تغير المناخ، والتفاوتات التي لا تطاق، والصراعات العالمية الكبرى. وهناك مخاطر مثل السياسات الشعبوية الخطيرة التي يحكمها "شعور مشترك على نطاق واسع بفقدان السيطرة.. بسبب العولمة والتحولات التكنولوجية. ويقال لنا أن النوع الثاني ناتج عن سنوات من سوء إدارة العولمة، والثقة المفرطة في التنظيم الذاتي للأسواق، والتقشف الذي أدى إلى إضعاف قدرة الحكومات على الاستجابة لمثل هذه الأزمات بفعالية.

وتقدم مجموعة الخبراء الاقتصاديين تسع توصيات: تحويل التركيز السياسي من جعل الكفاءة الاقتصادية أولوية قصوى نحو الرخاء المشترك وتأمين الوظائف الجيدة؛ وتطوير السياسات الصناعية... ودعم الصناعات الجديدة وتوجيه الابتكار نحو خلق الثروة للكثيرين؛ وتوجيه تركيز السياسة الصناعية بعيداً عن الإعانات ونحو الابتكار؛ وتصميم عولمة سليمة بقدر أكبر؛ ومعالجة عدم المساواة في الدخل والثروة؛ وإعادة تصميم السياسات المناخية فيما يتعلق بتسعير الكربون والاستثمار في البنية التحتية؛ ودعم التحول المناخي في البلدان النامية؛ وتجنب التقشف مع الاستثمار في دولة مبتكرة فعالة؛ وتقليص قوة السوق في الأسواق شديدة التركيز.

وكتبتُ في وقت سابق أن إجماع خبراء الاقتصاد- حتى التقدميين من ذوي النوايا الطيبة- أمر بالغ الخطورة. والإجماع بطبيعته هو عدو الاتساق والمنطق. لقد ابتعد أصدقائي قليلا عن الإجماع النيوليبرالي السابق، لكنهم لم يبتعدوا تماما، وهم لا يسيرون جميعاً في نفس الاتجاه.

صحيح أن الناس العاديين غاضبون. إذ بعد أن تلقوا وعودا بتطبيق مبادئ ديمقراطية الطبقة المتوسطة التي ترتكز على وظائف صناعية مستقرة، وجد الكثيرون أنفسهم يكدحون كعبيد في اقتصاد العمل الحر. وتحكمهم حكومة القِلة، ويحتقرهم مهنيون متعجرفون يعيشون في المناطق الحضرية، ويُعتبر خبراء الاقتصاد من بين أسوأ هؤلاء المتغطرسين.

كيف حدث هذا؟ قد يكون من السهل إلقاء اللوم على الصين (أو المكسيك، أو اليابان، أو حتى كوريا الجنوبية)، ولكن أصل المشكل هو الخلاف بين حزب العمال والليبراليين المناهضين للحرب، ونشب ذلك الخلاف داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي في سبعينيات القرن العشرين. وقد مهد ذلك الطريق أمام الرئيس رونالد ريغان ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، بول فولكر، لتدمير قطاع التصنيع في الولايات المتحدة والنقابات المرتبطة به، ثم أعقب ذلك صعود شركات التمويل الكبرى وشركات التكنولوجيا الكبرى في عهد كلينتون.

وفي عهد جورج دبليو بوش، زاد معدل الإنفاق العسكري، الذي كان المقصود منه تعزيز قوة الولايات المتحدة العالمية وسيطرتها على الموارد، وأبرزها النفط. واعتمد اقتصاد الولايات المتحدة، الذي يتمتع بتأييد أوروبا، على البنوك، والقنابل، والقواعد، والمعلوماتية. ومع احتساب المكاسب والخسائر، لم تُخلق وظيفة صناعية جديدة واحدة في أمريكا طوال أربعة عقود من الزمن.

ولمعالجة الغضب الشعبي، يدعو أصدقائي إلى الإبداع من أجل خلق الثروة "لكثير من الناس" والتعامل مع تغير المناخ، مع الحد من تركز السوق وقوتها أيضا. ولكن الإبداع هو السبب الأصلي وراء تركز قوة السوق. ودائمًا ما يتعلق الأمر بزيادة ثروة المبتكر ومموليه، وتحقيق الكثير مع عدد أقل من الأشخاص، وبتكلفة أقل. وهذه هي الطريقة التي ظهرت بها حكومة القِلة في مجال التكنولوجيا- بيل غيتس، وجيف بيزوس، ومارك زوكربيرغ، وإيلون ماسك، وبيتر ثيل، ولاري إليسون. وإلا لما سمعنا عنهم أبداً.

ولا شك أن معالجة تغير المناخ هدف نبيل. ولكن لا ينبغي للمرء أن يتجاهل الحقائق المزعجة التي تقف حاجزا أمام تحقيق ذلك. والحاجز الأول هو مفارقة جيفونز: زيادة كفاءة الطاقة تسمح باستخدامات جديدة للطاقة، ومن ثم فهناك احتمال بأن تزيد من استهلاك الطاقة. وما عليك سوى إلقاء نظرة على كمية الكهرباء التي تستهلكها عملية تعدين العملات المشفرة ونماذج الذكاء الاصطناعي. ويكمن الحاجز الثاني في كون مشاريع الطاقة المتجددة الكبرى تتطلب مناجم ضخمة (تستهلك الطاقة)، وبنية أساسية جديدة ضخمة (تستهلك الطاقة أيضا)، ولكي تكون مربحة، تحتاج إلى تكاليف رأسمالية منخفضة ومستقرة لا تتسق مع أسعار الفائدة المرتفعة. وهناك سبب وراء تقليص حجم المشاريع الواعدة التي أنجزت بالأمس أو ألغيت.

والمشكلة الثالثة الحاسمة هي أنه لا توجد صلة بين الاستثمار في المناخ ورفاهية عدد أكبر من السكان اليوم، أو حتى في المستقبل القريب. فهل ستنخفض فواتير الخدمات أو الضرائب أو أسعار الفائدة نتيجة لذلك؟ لا، لن يحصل هذا. وهل تصل المنتجات الجديدة إلى السوق لأن التعريفات الجمركية الضخمة منعت السلع المنتجة بالفعل في الصين من الدخول؟ بالطبع لا. إن الطريقة الوحيدة لتوزيع فوائد الثروة المترتبة على الإبداع على الكثير من الناس تتلخص في اعتماد نظام يتحكم فيه المجتمع على العملية برمتها. وكما قال ثورستين فيبلين ذات يوم سوف تحتاج إلى "لجنة من المهندسين"، يديرون هذه المشاريع كما أدير مشروع مانهاتن أو برنامج الفضاء.

ولكن القيام بأي شيء من هذا القبيل يتطلب أن تتمتع الدولة بالقدرة على ذلك، ويعترف المشاركون في قمة برلين بأن هذه القدرة قُوضت على مدى أربعين عاماً من الإهمال والاستغلال الناتج عن السياسات النيوليبرالية. من سيشرف على السياسة الصناعية الجديدة؟ مع عدم وجود أحد في حكومة اليوم، أصبحت التعريفات الجمركية وإعانات دعم الشركات هي الأدوات المتاحة، وقد عينت وزارة التجارة الأميركية مستشارين من" وول ستريت" لتحديد الجهة التي ينبغي أن تحصل عليها. أتمنى لها حظا موفقا في هذه المسألة.

والحقيقة المؤسفة هي أن المدافعين عن السياسة الصناعية اليوم هم غالبا نفس الأشخاص الذين طرحوا الفكرة لأول مرة قبل أكثر من أربعين عاما، في محاولة لإنقاذ الديمقراطيين في مواجهة اقتصاد ريغان. وفي ذلك الوقت، على الأقل، كان الأمر منطقيا. ولكن الآن، كما كان الحال في الماضي، يبدو أنهم غير راغبين في مواجهة البنوك، أو المقاولين العسكريين، أو أباطرة التكنولوجيا الذين يديرون الغرب الآن. وهم لا يدعون إلى إلغاء التمويل، أو نزع السلاح، أو (كما فعل جون ماينارد كينز ذات يوم) تعميم الاستثمار الجديد. إنهم يسعون إلى إعادة بناء قدرة الدولة، بينما يتجاهلون كل القوى التي دمرتها.

ومن ناحية أخرى، تعمل قوى سياسية جديدة واسعة النطاق على ملء الفراغ الذي خلفته السياسات النيوليبرالية في أميركا وأوروبا. ونظراً للضرر الذي حدث، فقد لا تكون هناك طريقة لتهدئة الغضب الذي يشجع "الشعبويين الخطرين" على تولي السلطة. ولكن من المؤسف أنه من المستبعد أن تساعد التطلعات المثالية المرتبطة بفكرة عفا عليها الزمن في تهدئتهم.

* جيمس ك. جالبريث، أستاذ الحكومة وكرسي العلاقات بين الحكومة وقطاع الأعمال في جامعة تكساس في أوستن، وهو خبير اقتصادي سابق في اللجنة المصرفية في مجلس النواب الأمريكي ومدير تنفيذي سابق للجنة الاقتصادية المشتركة في الكونغرس. وفي الفترة من 1993-1997، شغل منصب كبير المستشارين الفنيين لإصلاح الاقتصاد الكلي في لجنة تخطيط الدولة الصينية. وهو مؤلف مشارك (مع جينغ تشين) لكتاب "اقتصاديات الانتروبيا" الذي سيصدر قريباً: الأساس الحي للقيمة والإنتاج

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق