قبل التفكير بالعنف كحالة نفسية، او اجراء قانوني، لابد من التفكير بالالتزام بالحدود والقوانين، والتثقيف عليها، حينئذ نعرف حدود العنف وتفسيراته وفق الظروف على ارض الواقع، فربما يكون لدينا أب حريص على تربية أبنائه وفق القيم الاخلاقية، أو يحرص على علاقة ودّية وحميمة دائمة مع زوجته...
صديقٌ مقيم في مملكة السويد أعدّ مقطع فيديو وضّح فيه ثمان حالات يتعرض لها الطفل في الأسرة تُعد بالنسبة لدائرة الـ "سوسيال"، وهي منظمة تعني برعاية الشؤون الاجتماعية، على أنها أعمال عنف، فالعنف ليس كما نتصوره من أعمال الضرب أو الاعتداء اللفظي، وإنما هي عدم ارتداء الطفل ملابس كافية خلال فصل الشتاء، او عدم وجود حافظة الطعام في حقيبة الطفل المدرسية، وعندما يتكرر الأمر يُسحب الطفل من هذه العائلة ويُعطى لعائلة أخرى أكثر حرصاً عليه من هذه الناحية!
لا نناقش فلسفة اجراءات الحكومة السويدية إزاء الاطفال بهذا الشكل، فهذا شأنهم، ويعبر عن ثقافتهم وحضارتهم، إنما الذي يهمنا، تفسير العنف، وابتكار دلالات مختلفة له، وهو ليس مقتصراً على السويد والبلاد الغربية، كما كان في السابق، بل هو اليوم يمثل ثقافة يتم تسويقها بشكل سريع، واحياناً بشكل عنيف الى سائر دول العالم!
العنف المرفوض
بكل بساطة؛ العنف المرفوض في كل الشرائع السماوية والمذاهب والاديان، الى جانب القوانين الوضعية حول العالم، هو ما يجانب الحق وكل القيم المتعلقة به مثل العدل، والمساواة، والحرية، وايضاً؛ ما يجانب الفطرة البشرية، فجميع الاديان والمذاهب في العالم، لا تدين الأب في نظامها الاجتماعي، اذا مارس نوعاً من العنف لمنع حصول طفله على مسدس محشو بالرصاص، أو اراد الإبن اختيار مصاحبة اصدقاء ضمن جماعة تتاجر بالمخدرات او السلاح او الدعارة، بدلاً من اختيار الدراسة في المدرسة والجامعة.
وهم في ذلك يحاولون كبح جماح قوة هائلة تكمن في نفس الانسان، وهي؛ القوة الغضبية القابلة للنمو والتغوّل مع مرور الزمن وبمساعدة عوامل مختلفة، فتنتج انساناً عدوانياً، ابتداءً من داخل الأسرة، وهو طفل صغير، ومروراً بالمدرسة ثم العمل، وحتى يتحول الى شخصية قيادية يمسك بناصية الملايين من البشر، ويقودهم الى حروب كارثية يزهق فيها أرواح الملايين، ويلحق الدمار بدول وشعوب.
علماً أن هذه المحاولات لم تنجح –في كل الاحوال- ولم يفلح المشرعون وعلماء النفس في"السيطرة على عدوانية النفس الإنسانية، أو على الأقل تحجيم آثارها"، يقول المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه؛ "اللاعنف منهج وسلوك"، ويعزي ذلك الى اسباب منها؛ الفهم الخاطئ للنفس البشرية، وهذا الخطأ أوقعهم في فشل السيطرة على العنف المسبب للعدوانية، فقالوا بثنائية الخير والشر في النفس، وأن الانسان يندفع من حيث لا يريد الى ردود فعل عنيفة حسب الظروف و ما يراه هو، فلا مكان للفطرة السليمة، ولا الإرادة في كبح جماح القوة الغضبية، بل هذه القوة تكون الجهاز المنفذ لأي حركة عنيفة فجائية تصدر من الانسان مع مبررات ومسوغات عدّة.
ولعل هذا الفهم الخاطئ هو الذي يفسر لنا حرص بعض الحكومات في الغرب لتبني قوانين تدّعي إنها تحول دون ظهور الحالة العدوانية في نفس الأب –مثلاً- او أي فرد في المجتمع على حين غفلة من الآخرين، لذا فهم يتخذون كل الاجراءات الاحترازية للحؤول دون هذا، بمعنى أن الانسان عندهم متهم في نفسيته المشبوهة –إن جاز التعبير- حتى يثبت براءته! علماً إنهم لم يضمنوا مطلقاً تأثير هذه الاجراءات العقابية على الأب في عدم ممارسة الابن لأفعال عدوانية عنيفة في كبر سنّه.
الالتزام لا العنف
قانون العقوبات في الشريعة الاسلامية يحمل شعار الردع والمصلحة العامة والعِبرة للآخرين، ولعل القرآن الكريم يكون صريحاً جداً في تبيين هذه الحقيقة عندما يعد قتل القاتل –مثلاً- حياةً للمجتمع والناس أجمعين؛ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فعملية إعدام القاتل من حيث الظاهر يُعد عملاً عنيفاً كما تقول بعض الانظمة السياسية في الغرب، بيد أن هذا العنف يكون جائزاً و واجباً للحد من أعمال عنف أخرى يمكن ان تنتشر في المجتمع في المستقبل، وهكذا سائر العقوبات الموجودة في القوانين الوضعية في العالم، فهي تؤشر الى فلسفة واضحة جداً، وهي؛ العبرة للآخرين، حتى يلتزموا حدود القانون والأمن العام ومصلحة المجتمع.
و إذا نلاحظ اليوم ارتفاع حالات الجريمة؛ بدءاً من داخل الأسرة، ثم في أوساط المجتمع، وحتى على صعيد الدولة بشكل عام، مردّها الى تغييب قانون القصاص والحدود الشرعية والعقوبات الرادعة والموجبة للإلتزام بحقوق الآخرين.
فقبل التفكير بالعنف كحالة نفسية، او اجراء قانوني، لابد من التفكير بالالتزام بالحدود والقوانين، والتثقيف عليها، حينئذ نعرف حدود العنف وتفسيراته وفق الظروف على ارض الواقع، فربما يكون لدينا أب حريص على تربية أبنائه وفق القيم الاخلاقية، أو يحرص على علاقة ودّية وحميمة دائمة مع زوجته فيتبع اساليب او اجراءات ظاهرها عنيف بالكلام والتنبيه والتحذير والحرمان، لكن باطنها حبّ الخير وتجنب الانزلاق في أخطاء كارثية، ومن ثمّ توفير أفضل سبل العيش والحياة لعائلته، وهذا يصدق ايضاً على الجماعات الاخرى في المجتمع وفي الأمة كلها.
اضف تعليق