أثار كتابي الذي نشرته مؤخراً، أنا وزميلتي البروفسورة غيلفاند عن تحليل الثقافة والظواهر الاجتماعية في العراق من منظور جديد يختلف كليةً عما تم تبنيه سابقاً، جدلاً في أوساط بعض المهتمين بدراسة المجتمع العراقي، فالمجتمع العراقي على وفق ما أسفرت عنه نتائج الدراسة هو من أشد المجتمعات في العالم تصلباً وتشدداً في عاداته وتقاليده...
أثار كتابي الذي نشرته مؤخراً، أنا وزميلتي البروفسورة غيلفاند عن تحليل الثقافة والظواهر الاجتماعية في العراق من منظور جديد يختلف كليةً عما تم تبنيه سابقاً، جدلاً في أوساط بعض المهتمين بدراسة المجتمع العراقي.
فالمجتمع العراقي على وفق ما أسفرت عنه نتائج الدراسة هو من أشد المجتمعات في العالم تصلباً وتشدداً في عاداته وتقاليده وتنميطه لسلوكيات أفراده. أن لثقافة العراقية كما اختبرناها (احصائياً) هي ثقافة فرط تصلبية Hyper Tight.
وللإنصاف لان لهذا التصلب (المفرط) ما يبرره في ضوء الظروف الجيو- تاريخية والسياسية والاقتصادية والديموغرافية التي مر بها العراق وجعلت القلق الأمني، والحذر، والانفعال السريع، والاهتمام الشديد برأي الآخر، وكره الغموض، ومقاومة التغيير هي أبرز سمات ثقافته الاجتماعية.
وبعكس الثقافات التي أسميناها بالرخوة (أو السيالة) فأن العراقيين، ككل الثقافات الصلبة، شديدي التمسك بثقافتهم (بغض النظر عن تقييم تلك الثقافة) لأنها أحد أهم ضمانات وجودهم وبقائهم كما يعتقدون. لذا فأن أي تهديد متصور لأي ثقافة صلبة (كالعراق ومعظم مجتمعات الشرق الأوسط والأقصى) سيواجه بردود فعل اجتماعية متشددة.
من هنا نفهم سر القلق الشديد وردود الفعل الغاضبة من أنتشار موجة الشذوذ أو المثلية أو مجتمع الميم بحسب التسميات التي يتبناها كل فريق، كونها تمثل تهديداً مباشراً لتلك المجتمعات. هذا القلق الثقافي وبعكس ما يتصوره البعض ليس قاصراً على العراق ولا حتى المسلمين فقط. فنفس القلق موجود في الدول العربية وفي تركيا وروسيا اللتان تحدث قادتهما صراحة عن هذا التهديد الاجتماعي.
كما أن الصحافة والأعلام في دول العالم المختلفة بضمنها الدول التي تنتشر فيها مجاميع (الميم) كأمريكا وأوربا عبرت عن مثل هذه الخشية الاجتماعية حتى بات الموضوع أحد أهم المواضيع السياسية والاجتماعية التي ينشغل بها الرأي العام في العالم.
ومن منظور ديني فأن المسلمين يبدون أقل قلقاً من هذا التهديد من أديان أخرى (كالمسيحية مثلاً) كما أشارت له عدد من الدراسات. وفي العراق ثار لغط كثير حول ذات الموضوع وشغل الأوساط الدينية والسياسية حتى أن هناك مطالبات برلمانية وأصوات ثقافية تعالت مؤخراً مطالبة بتغيير بعض المصطلحات التي تم تبنيها من قبل الدولة (كالجندر أو النوع الاجتماعي) فضلاً عن سن قوانين وتشريعات جديدة تضمن المحافظة على ثقافتنا الاجتماعية والدينية مما بات يعتقده البعض حرباً ثقافية تشن ضد مجتمعاتنا! فما صحة هذا القلق الذي تعيشه مجتمعاتنا وهل هناك فعلاً مؤامرة على قيمنا ومعاييرنا الاجتماعية والدينية؟ واذا كانت هذه المؤامرة حقيقية، فمن الذي يقف ورائها؟ وما الذي سيجنيه من ذلك؟ هل هناك احتمال أن تنجح هذه المؤامرة في نقلنا من مجتمع ذي مُثُل الى مجتمعات المِثِل؟
كانت هذه وسواها أسئلة تلح عليّ طالبةً إجابات محددة وموثوقة عنها.
ولأنني باحث اجتماعي فأن كثير من الإجابات التي كنت وما زلت أقرأها عبر مواقع التواصل أو الأعلام لم تشف غليلي وكانت في كثير من الأحيان تتركني في حيرة أكثر مما أنا فيه أساساً! لذا قررت أن أتوغل أكثر في غابة متشابكة من المفاهيم والمصطلحات والأرقام والحقائق والحجج المتناقضة وعلى مدار عشرات الساعات التي قضيتها متنقلاً بين مختلف المصادر والصفحات كي أصل لفهمٍ أفضل عن هذه الظاهرة وأفسرها ضمن أطار اجتماعي علمي وليس ضمن أطار قلق نفسي أو اجتماعي أو رهاب غير مبرر علمياً.
وبدلاً من نشر ما تم الوصول له في أحدى المجلات أو المواقع العلمية العربية أو الأنكليزية لتبقى ضمن حدود النقاش العلمي بين المختصين، فقد كان القرار أن أنقل مستوى النقاش الى الإطار العام فأنشر تلك النتائج في صحيفة عامة ومواقع التواصل لتعم الفائدة أكثر، كما أعتقد. ورغم أدراكي للصعوبة التي سيواجهها القارئ في متابعة حلقات متتالية لهذه السلسلة، الا أن الإجابة على كل الاسئلة أعلاه وبطريقة علمية محايدة تتطلب كثير من الصفحات التي آمل اختصارها قدر الإمكان للموازنة بين موضوعية عرض الحقائق وبين عدم إصابة القارئ بالملل وهذا ما يعقد المهمة. لكني آمل ان تجدون عبر الحلقات القادمة إجابات حقيقية عن معظم ما يشغل بالكم في هذا الموضوع.
اضف تعليق