علينا أن نكون أوفياء لقيمنا قبل الوفاء لمرضانا ولكل أصحاب الجميل، فالحياة لا معنى لها بلا قيم، فبها وحدها يُعبد سبيل المعروف الذي فيه انسانيتنا، وبدونها يُقطع هذا السبيل النبيل، بينما لا نريد للمعروف أن يُقطع، ولإنسانيتنا أن تتبلد، ولضميرنا أن يموت...
قال لي: ما جدوى زيارته، وليس فيه سوى النفس؟، لقد تغلب المرض الخبيث عليه وفقد ذاكرته وقدرته على النطق، ولم يعد يعرف أحدا، فأجبته بانفعال، لكن أنا أعرفه تماما يا هذا، وان اختفى نطقه وخفت نظره، فاذا تلاشت ذاكرته، فذاكرتي مازالت تسترجع شريطا طويلا شغل فيه جزءا كبيرا من مساحته، نعم، أعرفه حق المعرفة، هذا الذي لم يغلق باب بيته أمام صديق او عابر سبيل أبدا، ديوانه عامر صباح مساء، هذا الذي لفرط كرمه يغضب ان استأذن ضيفه قبل موعد الغداء او العشاء.
لقد حرص دوما على أن يلتصق ملح طعامه بشغاف الوجدان، هذا الذي مازالت انسانيته تفوح في الأركان، ما رأى أحدا بحاجة وأشاح بوجهه، تخجلك كلماته ان عبر عن وفائه لأصحاب الفضل، فكيف لا أكون الى جواره وقد تقاسمنا الضحكات يوم كان في عنفوانه.
من النبل أن نكون الى جواره في محنته، وان كنا أقرب الى يقين مغادرته حياتنا التي لم نتعظ من دروسها البليغة، فصار بعضنا يبتغي منفعة من زيارة مريض، يريده أن يعرف بزيارته لتكبر منزلته لديه، وليسجل فضل عليه، تحسبا لاحتياجه في حال شفائه، وكأن عودة المريض ليست واجبا اخلاقيا ودينيا بذاتها، ما أتفه غاياتهم.
علينا أن نكون أوفياء لقيمنا قبل الوفاء لمرضانا ولكل أصحاب الجميل، فالحياة لا معنى لها بلا قيم، فبها وحدها يُعبد سبيل المعروف الذي فيه انسانيتنا، وبدونها يُقطع هذا السبيل النبيل، بينما لا نريد للمعروف أن يُقطع، ولإنسانيتنا أن تتبلد، ولضميرنا أن يموت.
اعتذر منك أخي وانت تصارع فكي الموت عن بعض الذين لم يوفوا على قدر عطائك، مع انك لم تبغ ردا لهذا العطاء، وأعتذر منك لأن محبيك بذلوا ما بالوسع لكن دون جدوى حتى جفت مآقيهم حزنا، لا أدري ان كنت تشعر بمن حولك ام لا؟، جسدك الملقى على فراش العافية بحاجة لمعجزة الهية، فمخالب المرض الخبيث تنهش برأسك، وتتمدد في جميع أجزائه، نسمعه في حشرجاتك، ونراه في خفوت عينيك وذبول محياك، وليس بمقدورنا سوى الدعوات اليك، والله أرحم الراحمين.
اعتذر منك أيها الحبيب لأن مشافينا هشة كهشاشة جسدك الآن، فهي ليست بأكثر من هياكل فارغة، يدور في ثناياها فقراء الناس الذين لا ملجأ لهم سواها، مع انهم يدركون انها عاجزة عن شفائهم على بساطة بعض أمراضهم.
اما تلك التي تشبه مرضك فالموت مصيرهم، ولا ينجون منه الا بقدرة قادر، وحدهم الأغنياء والفاسدون من تحلق بهم الطائرات نحو المشافي الراقية خارج البلاد، لك أن تتخيل ان كنت تسمعني: في واحدة من مشافينا، وجميعها في الهوى سوى، يعطون موعدا للمريض مدته ستة أشهر لأشعة الرنين ان كان بالمجان، واسبوعا او أكثر للذي يدفع أجره البالغ خمسين الفا، ولهم العذر: جهاز واحد لا يكفي لحشود المرضى، ولي أن أسأل كم جهاز يمكن شراؤه بالفساد الصغير الذي وصفه قاضي هيئة النزاهة والبالغ أربعين مليار دينار قام بسرقتها رجل أمن بسيط برتبة نقيب؟. فما بالك بسرقة القرن، واولئك الفاسدون الذين لا يتجرأ أحد على ذكر أسمائهم، أعرف انك قد تغادرنا، لكني أجزم: بأن لا عافية لك على أسرة مشافينا .
الفساد ينخر في بلادنا كما ينخر السرطان في رأسك، ولو لم تكن حاتما طائيا لكنت الآن كما الفاسدون والأثرياء في لندن او برلين، وكأن خطيئتك تكمن في وفائك للقيم العظيمة التي عرف بها أهلنا، وهل رأيت أكرم منهم بين الأقوام؟ لكن حال من قدر لهم تصدر صفوفنا كحال من لا يجد جدوى من عودتك لأنك لا تعرف زوارك، فلا مكان للوفاء في ضمائرهم لوطن يرونه شاحبا منذ عقود.
اضف تعليق