لقد علمتنا التجارب التاريخية العملية، ان بلوغ المزيج الثقافي الأمثل من التصلب والرخاوة يعتمد على مدى أدراك المجتمعات أن ثقافاتها ليست بمنأى عن الخطأ وبالتالي عليها أن تنفتح على أمكانية التغيير والتعديل مع الحفاظ على الجوهر الثقافي الأساس الذي نشأ عبر التاريخ. ولكي تبدو الأمور أكثر وضوحاً فسنضرب مثلين من الواقع المعاصر...
بقلم: منقذ داغر وميشيل كيلفاند
ان الخلاصة التي خرجنا بها من المقالات السابقة هي أن ثقافة أي مجتمع هي نتاج تفاعل تاريخي مستمر عبر قرون طويلة بين المجتمع بمختلف جماعاته، وبين المتغيرات البيئية المختلفة التي يمر بها.
مر العراق كما بقية الدول الأخرى بظروف مختلفة منذ بدء الحضارة الى يومنا هذا، والتفاعل مع هذه الظروف هو الذي خلق هذه الثقافة الاجتماعية التي نعيشها حاضراً. ولكي نفهم ذلك، لا بد من أعادة التوكيد أن التطور التاريخي والتفاعل البيئي لثقافة الجماعة يعبر عن نفسه من خلال القواعد او المعايير التي تضعها الجماعة لنفسها لكي تستجيب لبيئتها.
أي أن الجماعة ستضع لأعضائها معايير السلوك المتوقع من أفرادها في مختلف الظروف. فالسلوك الفعلي للفرد داخل الجماعة سوف لن يعتمد على ما يريده او يعتقده هو، بل ما تريده وتتوقعه الجماعة منه. وإذا كان ما يريده أو يعتقده الفرد يتطابق مع ما تريده الجماعة فلا نتوقع مشاكل نفسية او ظواهر اجتماعية معينة قد توصف بالسلبية.
أما إذا كان ما يريده الفرد أو يرغب به من سلوك يختلف او يتناقض مع ما تفرضه المعايير الاجتماعية فسيحصل هنا ما وصفه فرويد بإنه شعور عميق بالقلق خشية معاقبة الجماعة، والذنب نتيجة مخالفة الجماعة. وطبعا يزداد الشعور بالقلق والذنب كلما زاد تصلب الثقافة الاجتماعية لأن عقوبة هذا الانحراف عن السلوك المعياري ستكون شديدة اجتماعياً.
هل لاحظنا مثلاً كم من المرات نضطر للتصرف بطريقة معينة لمجرد أننا نعلم أن المجتمع سيلومنا (أو يعاقبنا اجتماعياً) أذا تصرفنا بطريقة مخالفة؟! نحن نلبس كما يتوقع منا المجتمع، ونتعامل مع أبنائنا وبناتنا تبعاً لتوقعات المجتمع، بل ونصرّح عن آراء ونتبع سلوكيات نعتقد أن المجتمع يحبذها، حتى وأن كنا لا نتفق أو نرغب بتلك المعايير السلوكية المفروضة علينا.
وقبل المضي بكشف ما أسفرت عنه نتائج القياس النفسي للمجتمع العراقي تبدو هناك ضرورة لتكرار ما سبق وتم إيضاحه في مقال سابق من أن شكل الثقافة الاجتماعية لا يعبر عن تفضيل قيمي. أي أنه لا يمكن النظر الى الثقافات الصلبة أنها أفضل من الرخوة، ولا يمكن في نفس الوقت تفضيل الثقافة الرخوة على الصلبة.
وكما ذكرنا في المثال الصيني والنيوزلندي والأمريكي والبرازيلي، فإن الثقافة الاجتماعية هي كالبدلة التي يفصلها الخياط على قياس الشخص فتكون ملائمة له، وهي قد تبدو جميلة ونود الحصول على مثلها، لكنها بالتأكيد لن تكون ملائمة ومناسبة لمقاساتنا، والواقع فأن لكل من الثقافات الصلبة وتلك الرخوة مزايا كثيرة، كما أنها تعاني من مشاكل عديدة أيضاً.
فالثقافة الصلبة هي الأفضل في حفظ النظام والقانون وتقليل معدلات الجريمة كما أشارت لذلك كثير من الأبحاث العلمية. مقابل ذلك نرى الثقافات الرخوة أكثر احتراماً وتركيزاً على حقوق الفرد وحريته، وهي مجتمعات تمتاز عموماً بزيادة الابداع والابتكار فيها.
لقد علمتنا التجارب التاريخية العملية، ان بلوغ المزيج الثقافي الأمثل من التصلب والرخاوة يعتمد على مدى أدراك المجتمعات أن ثقافاتها ليست بمنأى عن الخطأ وبالتالي عليها أن تنفتح على أمكانية التغيير والتعديل مع الحفاظ على الجوهر الثقافي الأساس الذي نشأ عبر التاريخ. ولكي تبدو الأمور أكثر وضوحاً فسنضرب مثلين من الواقع المعاصر.
فاليابان وألمانيا مثلاً هما من المجتمعات الصلبة حيث قواعد السلوك الاجتماعي صارمة ولا يتم التساهل مع من يخرقها، فمن يرمي الأزبال في الشارع سيجد كثير من الناس ممن يلوموه قبل أن تعاقبه الحكومة أو السلطات. لكنهما في نفس الوقت استطاعا تطوير نظم ديموقراطية تحترم حقوق الأنسان وحرية الفرد بحيث يتم التخفيف من وطأة الشعور بضغوط المجتمع على الفرد. مقابل ذلك فأن هناك دول ذات ثقافة صلبة لم تستطع اقامة هذا التوازن فأضاعت الصلابة ولم تكسب الرخاوة.
فروسيا مثلاً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ودول الربيع العربي وحتى العراق بعد الاحتلال مرت بحالة من فقدان التوازن أدت الى انفلات أمني وزيادة معدلات الجريمة وتشويه كامل لمعاني وقيم الديموقراطية والحرية. حدث ذلك لأن تلك الدول لم تستطع أدارة المرحلة الانتقالية بحيث تصل للمزيج الثقافي المناسب لظروفها.
هنا يصل القارئ الى اجابة التساؤل الذي طرحناه سابقاً عن ماهية الثقافة العراقية على مقياس التصلب والتراخي الثقافيَين. لكن كيف وصلنا لهذه النتيجة؟
اضف تعليق