ان العراق ما كان له بلوغ ما بلغه من رقي علمي وتطور حضاري في غالب مقاطع زمنه لولا تمازج هذه الألوان، بخليطها صار العراق منارة تشع بأنوارها على البشرية، وقبلة يُعتنى لها من أبعد بقاع الأرض، وفارسا يخافه الأعداء ويهابه الأصدقاء، قلبوا صفحات التاريخ، استعرضوا أسماء المبدعين، اسألوا فراتيه، انبشوا حجارته، ان كنتم بالحقيقة جاهلون...
أربعون عاما مضت، لم أره خلالها، ذلك الانسان الوديع، خفيف الظل، ذو الابتسامة الجذابة، ما أن يُطل علينا حتى يشعرنا بالنقاوة والدفء، انه خالد فرج الذي زاملنا في قسم الاعلام بجامعة بغداد بأناقته الخلابة وطوله المثالي وسترته الزرقاء وبنطاله الرصاصي، هكذا كان هو الزي الموحد الذي تُلزمنا الجامعة بارتدائه للقضاء على الفروقات الطبقية، ولكي لا تتحول الجامعة الى معرض لأزياء الأثرياء، وينزوي فقراء الطلبة في أركان بعيدة عن الأنظار.
خالد فرج درس في الهدوء، والاستجابة لرغبات الأصدقاء، يندر أن يقول: لا، أتذكره دائما ولا يمكنني نسيانه، عالق بذاكرتي كما علق الدكتور رافد حداد الأكاديمي المرموق والصحفي الماهر الذي حط به الرحال في ديار الغربة لنفقد كفاءة علمية ومهارة صحفية تضاف الى ما فقدناه من مبدعين تتكسر الحسرات في صدورهم لرؤية بلادهم التي صارت نهبا للمغامرين والفاسدين والخارجين من الكهوف، والذين فضلوا الغرباء على تضميد جراح وطنهم.
كم أتمنى لقاء رافد حداد لأنهل من خلقه الرفيع وأفكاره المتوقدة، ومن خالد فرج الفنان الذي انتهج طريق أخيه الرسام الكاريكاتيري بسام فرج، التقاطاته المبدعة لتعبيراتنا الحركية المميزة، ليؤكد لنا ان المبدع ذاك الذي يرى ما لا يراه الآخرون، والقادر على الاتيان بما هو جديد. لقد حفر الاثنان في قلبي مكانا أثيرا ليحطا فيه الى الأبد، المسيحيان اللذان ملئا شغاف القلب محبة، بودي لقائهما لأهنىء من خلالهما جميع اخوتنا المسيحيين بأعياد الميلاد، وأقول لهم: انكم بناة العراق الاصلاء الذين بدونهم يفقد وطننا طعمه ونكهته.
جمال العراق وعظمته بشرائحه الاجتماعية الملونة، بمكوناته التي عرفها التاريخ، مسلمون ومسيحيون ويهود وصابئة، كرد وعرب وتركمان وكلدو آشوريين، سنة وشيعة وغيرهم من ألواننا الجميلة، على الجميع أن يُدرك، وعلى الواهمين أن يعرفوا، والغافلين أن يتّنبهوا، والمتعصبين أن يفهموا: ان العراق ما كان له بلوغ ما بلغه من رقي علمي وتطور حضاري في غالب مقاطع زمنه لولا تمازج هذه الألوان، بخليطها صار العراق منارة تشع بأنوارها على البشرية، وقبلة يُعتنى لها من أبعد بقاع الأرض، وفارسا يخافه الأعداء ويهابه الأصدقاء، قلبوا صفحات التاريخ، استعرضوا أسماء المبدعين، اسألوا فراتيه، انبشوا حجارته، ان كنتم بالحقيقة جاهلون.
ولكي يظل العراق عليلا، متراجعا لا يقدر على الخطو للأمام، ممزقا يصعب اعادة تماسك نسيجه، يجب افراغه مما يجعله كاملا، ولابد من تأسيس منهجي للكراهية، تستمد من معتم تاريخنا شواهدها، ومن الاستثناءات المنسية دلائلها، ومن تخريب الثقافة والمدرسة طريقا لترسيخها.
ومع ان المؤامرة انطلت لبرهة من الزمن، وتشبث بها الجاهلون من القوم، والمستفيدون من عليته، والواضعون أيديهم بأيدي الغرباء، لكن وعي العراقيين كان أكبر مما تصورا، لأنهم لم يُجبلوا على الكراهية والتمييز، لم يسألوا يوما عن ديانة اخوانهم ومذاهبهم وأعراقهم، يتندرون على غيرهم من الذين يتمايزون على أساس اللون ويدعّون التحضر والمواطنة، فالعراقيون مترفعون على مثل هذه الترهات، لأنهم صنيعة التاريخ، متسامحون بطبعهم، مستنكرون لكل ما جرى لإخوانهم في سنجار وفي غيرها، ويعرفون تماما وقالوها بأعلى أصواتهم ان حرائقنا وتهديم منائرنا وتشريد اخواننا وتخريب مدننا خلفها اولئك الذين تعرفون، وبراءة العراقيين منها كبراءة الذئب من دم يوسف.
فلنحتفل جميعا بأعياد الميلاد وغيرها من أعياد، ولن نعطي أذنا صاغية للذين تستثيرهم أشجار الميلاد بمصابيحها الملونة او دمى بابا نوئيل ليغلقوا محال بيعها وتخويف أصحابها، لأنهم لم يدركوا جوهر قول سيد البلغاء الامام علي (ع) ( النّاسُ صِنْفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّيْن، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلْقِ ). لذا نحن أولى بالاحتفال مع خالد فرج ورافد حداد من غيرنا، فالتاريخ يقول: العراق مركز الكون. ولا بد له أن يكون ملونا.
اضف تعليق