إنسانيات - مجتمع

لا طعم للحياة بلا…

جمالية أي مجتمع تكمن في مجموعة القيم السامية في ثقافته، وبدونها تُفقد هذه الانسانية التي تجعل للحياة نكهة، لذلك يتعذر على العراقي العيش بعيدا عن مجتمعه الا بصعوبة، ويبقى طوال حياته يئن على ما فقده، ويتمنى العودة لولا العوائق التي دعته للمغادرة...

لا قوم أكرم من العراقيين، ولست بهذا القول أتعالى على غيرنا، لكنها الحقيقة التي تتلمسها بوضوح أينما حط بك الرحال خارج بلادنا، فما أن تحل ضيفا على عراقي حتى يكرمك بأحسن ما يملك، وان استدعاه ذلك للاستدانة، المهم، أن تخرج من داره وانت مرتاح، فتشعر بقيمتك عنده، والاستثناء في ذلك نادر، وهكذا هو التكافل الاجتماعي، فلا أظن من ينام منهم مرتاحا وجاره جائع، او يتردد بانتشال محتاج من محنته وهو قادر اذا كان ذلك المحتاج محترما بين الناس، وفي زمن الحصار تقاسم العراقيون رغيف الخبز رغم قساوة تلك الاعوام التي حُرم فيها الغالبية من أساسيات العيش، ومنهم من لم يذق اللحم على مدى سنوات، ولولا التكافل ما كان بمقدورنا تجاوز تلك المحنة.

الكرم والتكافل قيمتان عظيمتان كغيرهما من القيم العربية الأصيلة، يشعرانك بإنسانية المرء، والحياة بلا قيم تفقد معانيها، فجمالية أي مجتمع تكمن في مجموعة القيم السامية في ثقافته، وبدونها تُفقد هذه الانسانية التي تجعل للحياة نكهة، لذلك يتعذر على العراقي العيش بعيدا عن مجتمعه الا بصعوبة، ويبقى طوال حياته يئن على ما فقده، ويتمنى العودة لولا العوائق التي دعته للمغادرة، مع ان نمط الحياة في بلاد الغربة أكثر استقرارا وانتظاما مما كان عليه، فالأوطان هي الناس وليس الأرض.

وكثيرا ما سألت نفسي: كيف نشأت قيمة الكرم لدى العراقيين الذين يفوقون بها أشقائهم العرب؟ ولم أجد تفسيرا وافيا، وكنت فسرتها من منظور اعلامي بأن البيئة الصحراوية التي يعيش فيها العربي، ووجوده في أماكن منعزلة بحسب مراعي ماشيته، بعيدا عما يجري لدى القبائل الأخرى من أحداث، فيرحب ويدعو كل مار للاستعلام منه عن أحوال الآخرين، لكني لم أقتنع به تماما كدافع وحيد لنشوء الكرم، بل قد تكون ثمة دوافع أخرى لا أعرفها.

مرة وفي رحلة لواحدة من قرى الفرات الأوسط أتفقد فيها قريبا، وحينها لم أستطع تحديد بيته على وجه الدقة، فسألت أحد المارة ايصالي اليه، فاستقبلني بابتسامة وقال: وصلت، وبعد مسافة ليست بالطويلة أدخلني في بيت شككت فيه، فهذه ليست ملامح البيت الذي في ذاكرتي، خجلت أن أسأله، ولكن بعد مضي مدة دخل قريبي، واتضح ان هذا ليس بيته، وأقسم صاحب البيت ألا نخرج منه الا بعد تناول وجبة الغداء. هكذا هم العراقيون، كرماء متكافلون، لكن أخشى ما أخشاه أن تغير الظروف الاستثنائية التي يمرون بها بعضا من ذلك النُبل الذي يتفردون به.

ما دعاني لهذا الكلام، هو تخلي كثيرين عن عادة تكافلية مهمة يجدر تعزيزها، فقد كان الناس في مجالس العزاء يسهمون بمبلغ بسيط لكنه كبير بمجموعه كنوع من التكافل لتقليل الأضرار المالية التي يعانيها صاحب العزاء الذي قد لا يملك المبالغ التي تعينه على سداد مستلزمات العزاء، فتضاف مصيبة الى مصيبته، بخاصة ان عدم اعداد وجبات الطعام وغيرها للمعزين يقلل من شأنه بين الناس في نظر البعض غير الواعي، او عدم القدرة على سداد بدلات ايجار القاعة التي يُقام العزاء فيها.

يطلق على هذا المبلغ (بالفضل) ويسجل في دفتر خاص، يذكّر صاحب العزاء بمن واساه وتكافل معه، وهو أشبه بالدين الواجب سداده لاحقا في مناسبة مماثلة، لكن هذا النوع من التكافل وللأسف الشديد لم يعد موجودا، ويبرر البعض بأنه لا لزوم له طالما ان صاحب العزاء لم يولم الولائم، او ان عزاءه في قاعة، لا أظنه عذرا مقبولا، ذلك ان الوضع المالي لأغلب العوائل وسط او دونه، بينما يشكل العزاء عبئا ثقيلا. وهنا يصبح الفضل (واجبا)، فمن كرم العراقيين حفظ ماء الوجه، وهذه مناسبة تكشف عن عوز الاخوان، بينما هم شديدو التعفف.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق