السياق الحضاري ليس خطا مستقيما في التصاعد، انما هو خط متعرج في تفاصيله، يصعد مرة ويهبط مرة، لكن المحصلة النهائية تصاعدية. دور الوعي الحضاري ان يخبرنا عن الحدث موضوع الدراسة والتحليل هل هو ضمن قائمة الصعود ام ضمن قائمة الهبوط. وطبيعي ان نقول ان اي حدث يجسد القيم الحضارية...
نحن بحاجة الى بناء وعي حضاري civilizational awareness لدى ابناء المجتمع، ومنشأ الحاجة يكمن في ضرورة تزويد المجتمع بالقدرة على فهم ووضع الحدث التاريخي في سياقه الحضاري وحمايته من في الوقوع في الخطأ، في النظرة او في التصرف، ازاء وقائع الحياة. هذا باعتبار ان الوعي عبارة عن رؤية خاصة، تستند الى معرفة معينة، وينتج عنها تصرف او موقف. ولا يحتاج الامر الى كثير جهد لنشخص ان هذا الوعي الحضاري ليس متوفرا بما يكفي لتحقيق المطلوب: تجنب الخطأ وانتاج الصواب. وغياب او تدني مستوى الوعي الحضاري من مفردات التخلف الحضاري العام، ومن فروعه التخلف الثقافي.
وكغيره من الاشياء المطلوبة، فان بناء الوعي الحضاري ينبغي ان يتم في المدرسة، اضافة الى مراكز انتاج الثقافة والوعي الاخرى. وعلى هذا ينبغي ان يكون من اهداف النظام التربوي غرس الوعي الحضاري لدى الاجيال الناشئة.
من بين متطلبات بناء الوعي الحضاري بناء تصور واقعي للسياق الحضاري civilizational context. واقول واقعي لابعاد الصفة الايديولوجية او العقائدية المسبقة للسياق. وتكون الرؤية واقعية اذا انتزعت من متابعة علمية وموضوعية لحركة الانسان في الزمان والمكان في اطار القيم الحاكمة او الدافعية لهذه الحركة. والسياق الحضاري هو هذه الحركة بالذات. حركة الانسان لتحسين ظروف حياته بالارتباط بمنظومة قيم معطاة.
يتحقق بناء الوعي الحضاري بالاستناد الى السياق التاريخي، اي القدرة على وضع الحدث التاريخي في هذا السياق الحضاري، بمعنى الكشف عن موضع الحدث التاريخي في السياق الحضاري، الكشف عن هذه العلاقة سواء كانت سلبية ام ايجابية. وبذا يكون السياق الحضاري العام، الذي يمارس في ضوئه تفهم الحدث، هو المسؤول فهم الحدث ومعرفة دلالاته واضفاء المعنى عليه.
سواء اخذنا قصة روبنسون كروزو لدانيل ديفو او حي بن يقظان لابن طفيل كنماذج لفهم السياق الحضاري، او بدمجهما معا، لامكننا التوصل الى حقيقة ان الانسان يبادر، فور ادراكه لوجوده، الى القيام بامرين: الاول، فهم ما حوله؛ والثاني، تحسين شروط حياته. وهذا المقدار من المعرفة موضع اتفاق. سوف اتخذ هذه المعلومة طريقا الى فهم السياق الحضاري.
يقول القران في واحدة من اياته ذات العلاقة المباشرة بموضوع حديثنا هنا: ان الله "خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً". والابتلاء هو الاختبار والامتحان. والغاية هي العمل الحسن. والعمل الحسن هو العمل الذي يسهم في تحسين حياة الانسان. ومنذ ظهر الانسان على الارض وهو في عمل مستمر ومتواصل من اجل تحسين حياته وظروف انتاجه. وهذا ما شكل السياق الحضاري للبشرية. وصار بمقدورنا اليوم ان نسرد مخترعات الانسان واكتشافاته من اختراع الادوات الحجرية، واكتشاف النار، واكتشاف الزراعة، واختراع العجلة، واختراع الكتابة، وقيام القرية والمدينة، ودولة المدينة، والدولة، والامبراطورية، واكتشاف النفط، واختراع الورق، والمطبعة، والعجلة البخارية، والنزول الى القمر، وفك الشفرة الوراثية DNA، والذهاب بعيدا في الفضاء، ورسم خارطة الكون، واخيرا اتفاق البشرية على منظومة اهداف التنمية المستدامة.
ولكل من هذه المفردات موقعها ودورها في السياق الحضاري وفي تكامل هذا السياق. وكل هذا مما يندرج تحت عبارة "ليبلوكم احسن عملا".
السياق الحضاري ليس خطا مستقيما في التصاعد، انما هو خط متعرج في تفاصيله، يصعد مرة ويهبط مرة، لكن المحصلة النهائية تصاعدية. دور الوعي الحضاري ان يخبرنا عن الحدث موضوع الدراسة والتحليل هل هو ضمن قائمة الصعود ام ضمن قائمة الهبوط. وطبيعي ان نقول ان اي حدث يجسد القيم الحضارية العليا او يحسّن من طبيعة الحياة او يزيد من معرفة الانسان بنفسه او بما حوله انما هو بلاء حسن، والعكس بالعكس.
اضف تعليق