q
إنسانيات - مجتمع

القرآن في النهضة الحضارية

الجزء الثاني

اهتم القرآن اهتماما بالغا في بيان اهمية موقع الانسان في المركب الحضاري، اضافة الى استخلافه في الارض، وافاض في الحديث عن تكريم الانسان وتفضيله والتأكيد على حقوقه السياسية والمدنية الخ واعتباره هدفا للتنمية والانتاج، كما دعا الى الانتشار في الارض واستثمار خيراتها والاستمتاع بها، وحث على العمل...

لاحظوا العنوان، لم اقل النهضة الحضارية في القرآن، انما القران في النهضة الحضارية، لماذا؟ لانني ابحث عن جواب لما يمكن ان يفعله القرآن في مشروعنا الحضاري الراهن. كيف ينفعنا القران في معركتنا ضد التخلف؟ كيف يحارب القرآن التخلف؟ وبتعبير اخر: هل يمكن ان يكون القرآن احد ادواتنا في معركة القضاء على التخلف.

لاحظ ان كل او اغلب الآيات الواردة في هذا المقالات مكية، يعني انها نزلت في المرحلة الاولى، مرحلة الدعوة، ما يعطي دلالة على ان محاربة التخلف كانت من اولويات القرآن، وبالبحث التفصيلي في آيات القران البالغ عددها 6348 آية منها 112 بسملة غير مرقمة و6236 آية قرآنية توصلت الى جواب يقع في شقين.

الشق الاول: بناء الاطار والمحتوى المفهومي والقيمي للمركب الحضاري.

الشق الثاني: مكافحة نقاط الخلل في المركب الحضاري.

نبدأ بالشق الاول.

حدد القران الاطار العام للمركب الحضاري في مقطع مهم من سورة البقرة جاء فيه:

"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"

"وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا".

"قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".

ويُفهم من هذه الآيات ان المركب الحضاري يتألف في الاصل من عنصرين هما الانسان والارض. فالعمل الحضاري هو عبارة عن تفاعل الانسان مع الطبيعة (الارض)، والحضارة هي نتاج هذا التفاعل. والتفاعل، الذي هو عمل، انعكاس لمعرفة او علم الانسان. فاذا كان العلم صحيحا وسليما نجح الفعل الحضاري في انتاج حضارة تحقق السعادة والامن والكمال للانسان "فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ".

وهذه هي العناصر الخمسة للمركب الحضاري: الانسان، الارض، الزمن، العلم، العمل.

والجامع او الاطار العام لهذا المركب الحضاري هو "الاستخلاف". والاستخلاف يعني عمارة الارض، والاستمتاع بخيراتها، وتنميتها، وتولي زمام القيادة فيها. وبالتالي، فان ما يزرعه القران في ذهن كل انسان يتلقى اياته بالقبول هو ان يكون "خليفة لله في الارض". وبتحليل الدلالات اللغوية لكلمة خليفة بوصفها عنوان العلاقة بين الانسان والله، حسب المفهوم القراني، يتضح ان معناها يؤول الى القيام مقام الله في الارض. ومن اجل ان يتحقق هذا، يتعين على الانسان، كما بيّن الرسول محمد (ص)، ان يتشبه باخلاق الله.

واخلاق الله تشمل، من بين امور كثيرة اخرى، العلم والفاعلية والقدرة والعدالة والاحسان والقوة الخ. وهذه صفات يجب ان تتوفر في الانسان على نحو مستمر ومتصاعد من اجل ان يكون "خليفة لله في الارض"، اي من اجل ان يعمر الارض ويستثمر خياراتها بالعدل والانصاف والمساواة، انطلاقا من كون البشر كلهم افرادا متساوين احرارا خلفاءً لله.

ولا يفوتني ان اذكر هنا ان التاريخ شهد ظهور افراد ادعوا حق الاستخلاف واحتكروه لأنفسهم وهؤلاء هم "الطغاة". وطغى تعني: اعتدى وتجاوز الحد. والعدوان هنا هو على بقية البشر ممن يملكون نفس الموقع. وهذا خلل يقع في المركب الحضاري. وسوف نعالج لاحقا موقف القران من حالات الخلل في المركب الحضاري. وقد قدم القران منظومة كبيرة من المفاهيم او القيم الحضارية المتعلقة بهذه العناصر الخمسة، من اجل ان تكون مؤشرات السلوك العامة للفرد والمجتمع والدولة.

وفي هذا السياق، اهتم القرآن اهتماما بالغا في بيان اهمية موقع الانسان في المركب الحضاري، اضافة الى استخلافه في الارض، وافاض في الحديث عن تكريم الانسان وتفضيله والتأكيد على حقوقه السياسية والمدنية الخ واعتباره هدفا للتنمية والانتاج، كما دعا الى الانتشار في الارض واستثمار خيراتها والاستمتاع بها، وحث على العمل، وزيادة العلم، والتخطيط للمستقبل وعدم هدر الزمن.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق