إذا كانت رواية سلطانات الرمل تتحدّث عن مرحلة دخول المدنية إلى الريف وعالم البدو، فإن مرحلة ما بعد نحو قرن من الزمان تظهر العكس، حيث تم ترييف المدن والحواضر، بل بدونتها ما انعكس سلباً على المجتمع المدني، في حين يدخل العالم إلى ما بعد الحداثة.
لم أكن قد تعرّفت على البادية السورية قبل تعرّفي على الروائية السورية لينا هويّان الحسن، وبالتحديد بعد قراءة روايتها المدهشة ”سلطانات الرمل” التي دوّنت فيها ” سيرة أشهر فاتنات بادية الشام بين 1880 و1950 وحين قرأت الرواية شعرت أن الحسن، لا تمتلك خيالاً خصباً فحسب، بل ولغة أنيقة وجملة رشيقة ورؤية مثيرة، مثلما اكتشفت الكمّ الهائل من المعلومات الغنيّة عن البادية والتفاصيل الوفيرة عن العشائر، باستعادة دور العشيرة، ليس بصفتها ماضياً فحسب، بل باعتبارها حاضراً.
وإذا كان وجود قانون للعشائر في العراق يعــود لفترة الاحتلال البريطاني 1914-1918 فإن قانون العشائر السوري حديث نسبياً، ولكن إلغاء القانونين جاء متساوقاً مع أحداث “ثورية” حصلت في البلدين، أولها قيام الوحدة المصرية- السورية، وثانيها- قيام ثـــورة 14 يوليو تموز في العراق، وكلاهما حصلا في العام 1958 وقد نشرت الروائية لينا الحسن نص قرار إلغاء قانون العشائر يتوقيع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي صدر في 28 سبتمبر/أيلول وجاء فيه: يلغى قانون العشائر الصادر بقرار رئيس مجلس النواب السوري رقم 31 بتاريخ 13/6/1956 ويخضع أفراد العشائر إلى كافة القوانين والقرارات والأنظمة المطبقة على المواطنين الحضريين في الإقليم السوري.
دور العشيرة
وعلى الرغم من مضي أكثر من 6 عقود على إلغاء قانوني العشائر في العراق وسوريا وتراجع دور العشيرة فعلياً بحكم توجّهات الدولة المدنية في البلدين، فإن العودة إلى العشائرية أخذ يتسلّل مجدداً بالترافق مع تراجع هيبة الدولة وعدم قدرتها على بسط نفوذها وسلطانها على كامل البلاد. لقد عملت بريطانيا على كسب بعض رؤساء العشائر لصالح أهدافها الاستعمارية، ومقابل ذلك أغدقت عليهم ليكون لهم دوراً سياسياً أيضاً ويصبحوا أعضاء دائمين في مجلسي النواب والأعيان، كما وزّعت عليهم الأراضي ومنحتهم امتيازات وصلاحيات موازية للقضاء والحكومة في مناطقهم وإقطاعياتهم بما فيها الفصل في النزاعات، إضافة إلى أحكام وسجون خاصة لإخضاع أبناء عشائرهم وضمان موالاتهم. لكن دور العشائر بدأ ينحسر بالتدريج بعد العام 1958 في العراق وفي سوريا بعد إلغاء قانوني العشائر وإضعاف القاعدة المادية الاقتصادية والاجتماعية لرؤساء العشائر، وتوزّع أبناء العشائر، وخصوصاً بعد الهجرة الواسعة من الريف أو البادية باتجاه المدن على الأحزاب والنقابات والجمعيات، وساهم الإصلاح الزراعي بغض النظر عن أخطائه وتأثيره السلبي على الزراعة في إضعاف دور العشيرة.
وبعد غزو القوات العراقية للكويت العام 1990 وحرب قوات التحالف ضده في العام 1991 شهد العراق عودة العشائرية بقرار حكومي ، حيث بدأ الرئيس السابق صدام حسين باستقبالهم وتكريمهم بل إن بعض العشائر تم تصنيعها ظنّاً منه أنه بالإمكان حماية نظامه ، وبالغ بعض هؤلاء في التوقيع له بالدم على “وثيقة حفظ العهد”، وقد حاول الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر توظيف بعضهم لصالح المشروع الأمريكي مستغلاً الخلافات السياسية والطائفية من جهة وضعف مرجعية الدولة من جهة أخرى. وهكذا أصبح لبعض هؤلاء شأن كبير استغله إلى حدود بعيدة. وتنقل مجلة الإيكونومست البريطانية الدور الجديد الذي يقوم به بعض رؤساء العشائر في الوقت الحاضر، وجاء في مقالة بعنوان : ” العشائر في العراق” مع عنوان فرعي ” استأجر شيخاً” ما يلي: “بعد سقـــوط صدام حسـين عام 2003 ملأ الشيوخ الفراغ بعد نشوء دولة هشّة وفاسدة، ويقوم اليوم حتى بعض المحامين بتقديم النصيحة لزبائنهم باستخدام مجالس العشيرة بدلاً من اللجوء إلى المحاكم، خاصة بعد أن اقام الشيوخ علاقات وطيدة مع الميليشيات ذات النفوذ ، وهذا ما أدّى إلى ازدهار بزنس جديد، حيث يقوم الشيوخ بعضهم بعرض خدماتهم”. وبالعودة إلى رواية ” سلطانات الرمل” شعرتُ وأنا أتابع تفاصيلها المتداخلة والأسماء المتدافعة والأمكنة والأزمنة، أن ثمة واقعاً جديداً في كل من سوريا والعراق وكأنه عودة القهقرى إلى ما قبل قرن من الزمان، خصوصاً بقطع خط التطوّر التدرّجي والتراجع إلى مرجعيات ما دون الدولة وما قبلها، ناهيك عن استغلال بعض الإرهابيين، ولاسيّما “داعش”، لبعض تلك التشكيلات.
حضور باهت
لقد أصبحت الظاهرة العشائرية التي كان حضورها باهتاً في سوريا ملفتة للنظر، لجهة التداخل الخارجي من جهة، ومن جهة أخرى لجهة استعادة الدولة لمكانتها وهيبتها. أمّا في العراق الذي تتنازعه مرجعيات عديدة فقد اصبحت طاغية لدرجة أن الدولة اضطرت لإصدار مرسوم بشأن “الدكّة العشائرية” تشرين الثاني نوفمبر 2018 التي عدتها ضرباً من الإرهاب ، والدكّة تهديد أولي أو إنذار، بالمحذور الآتي لدفع الطرف المعني للتنازل وتنفيذ ما يُطلب منه، حيث يتم إطلاق النار على منزل المراد تهديده، قبل القيام بعمل أكبر. وإذا كانت رواية “سلطانات الرمل” تتحدّث عن مرحلة دخول المدنية إلى الريف وعالم البدو، فإن مرحلة ما بعد نحو قرن من الزمان تظهر العكس، حيث تم ترييف المدن والحواضر، بل ” بدونتها” في حين يدخل العالم إلى ما بعد ” الحداثة”.
اضف تعليق