q

يصرّ علماء الطب النفسي على أن "انفصام الشخصية" هو دائماً يمثل حالة مرضية ناشئة من اضطرابات عقلية تلقي بظلالها على وظائف المخ فتنتج اضطراباً آخر في التفكير والسلوك والمشاعر مما يجعل صاحبه عاجزاً عن إقامة علاقات ايجابية مع المحيط الاجتماعي، فيفضل الانعزال والتقوقع، بل ان هنالك أدوية وعلاجات توصف لهكذا مصابين بهذه الحالة المرضية، يقال انها تخفف من الاعراض المرضية.

وإن كانت الابحاث العلمية في مجال الطب النفسي لها ميدانها الرحب، فهذا لا يلغي العوامل ذات المدخلية المباشرة في نشوء هذه الحالة (الشيزوفرينيا) والتي تؤكدها آراء أخرى لباحثين وعلماء في هذا المجال، مما يرتبط بالوراثة والتربية والمؤثرات الخارجية من ضغوط وأزمات ومنغّصات من محيط الأسرة او المدرسة او محيط العمل وحتى الشارع، فاذا كانت الفئات العمرية الطرية العود الأكثر تعرضاً لهذه الحالة المرضية، تعيش في بلاد مسكونة بالأزمات، مثل العراق، فهذا يعني أننا امام ظاهرة اجتماعية خطيرة تنمو وتنتشر بصمت، كون حالات مرضية ذات سمة نفسية كهذه، ليست كالامراض البدنية الشائعة التي يبوح بها صاحبه، ويكون التوجه الى الطبيب المختص أمراً طبيعياً، وهي المشكلة التي يتحدث عنها معظم أطباء الامراض النفسية.

النمو والانتشار في مناطق المهمة

عندما يكون الانفصام في الشخصية في فئة عمرية تكتسح شريحة طلبة المدارس، فان هذا يقرع جرس إنذار للمعنيين بخطورة الآثار المترتبة على وجود تصدعات في الجيل الجديد المفترض الاعتماد عليه علمياً وتنموياً وحتى ثقافياً لمستقبل البلاد، والى جانب العوامل التي يشير اليها الباحثون، فان معطيات الواقع تنبئ عن وجود عوامل جديدة اخرى ذات مدخلية، لاسيما اذا عرفنا أن مسيرة التعليم في بلد مثل العراق وحتى بلاد اخرى، يربط مصير الشاب او الشابة بفرص العمل وضمان المستوى المعيشي الحسِن والهروب من هاجس الفقر والبطالة، فتكون الحياة في محيط المدرسة عبارة عن ساحة مشحونة بالتوتر والاضطراب، حتى نُقل عن البعض أن "لا معنى للعلاقات الصادقة مع المجتمع، فالناس بالامكان استبدالهم في أي وقت..."! هذه رؤية طالب إزاء افراد المجتمع في خارج المدرسة، فيكف يكون الحال في العلاقات داخل المدرسة؟!

إن وجود صياغة للشخصية بهذه المواصفات، وإن كانت بنسبة معينة، بيد انها ذات تأثير خطير في المستقبل على الحياة العامة، لأن سيكون لدينا أطباء ومهندسون ومحامون ومدراء وخبراء وتقنيون والقائمة تطول؛ فهل يتركون هذه الحالة المرضية على مقاعد المدرسة ويخرجون الى المجتمع بقلب سليم؟!

رأس العقل التودد الى الناس

وجدت من المناسب جداً اختيار هذا الكلام الحكيم الوارد في "غُرر الحكم" عن الامام علي، عليه السلام، ليكون عنواناً فرعياً لما يمكن الاستضاءة للتخلص من هذه الحالة المرضية الى الأبد، وإنقاذ ابنائنا من هذا الداء الوبيل، بما يمكنهم من صنع مستقبلهم بكل اطمئنان وثقة عالية أولاً؛ ثم الإسهام في مسيرة التقدم المجالات كافة.

واضافة الى هذه؛ فان هذا الكتاب القيّم، ومصادر اخرى للحديث والرواية، تزخر بالكثير الكثير من الوصايا المؤكدة على التواصل والتوادد وبناء العلاقات الايجابية الحسنة بين افراد المجتمع ونبذ أي نوع من الانطواء والانعزالية والتقوقع في كل الظروف والاحوال، منها ما ورد عن أمير المؤمنين، عليه السلام: "الغريب من ليس له حبيب"، و"الإخوان جلاء الهموم والأحزان".

واذا كنّا نعرف بحقيقة الحالة الاجتماعية للإنسان، وأن لفظة الإنسان، تعود بالأساس الى كون البشر يأنس بغيره، وليس بوسعه العيش منفرداً، فان الجيل الصاعد ربما تخفى عليه بسبب تراكم الازمات والمنغّصات، فيرى – على حين غرّة- أنه قادر على الاستغناء عن الآخرين، ولا شأن له بمشاعرهم وحقوقهم.

وهذا يدعونا الى تسليط الضوء على فوائد الانضمام للتخلص من الانفصام، وآثاره المباشرة على حياة ابناء الجيل الجديد، وفي كتابه "الصياغة الجديدة" يشير سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي –قدس سره- الى "ان الانسان الذي ينضمّ الى المجتمع يوفر لنفسه ثلاثة أمور:

أولاً: خروجه من الوحدة التي يحسّ بها في باطنه.

ثانياً: تكون أعماله –حينئذ- موجهة في وجهة خاصة، وضمن الاطار الاجتماعي الذي يقبله الجميع قانوناً، وتخرج اعماله عن كونها فُرطا، وفي هذا رغبة انسانية، إذ يميل الانسان بفطرته الى النظام في قبال الفوضى والانفصام.

ثالثاً: يحصل التعاون بين افراد المجتمع في مختلف شؤون الحياة؛ من العمل والسكن والزواج والامن وغيرها من الامور التي لن تتحقق إلا بالتعاون بين افراد المجتمع".

فاذا كان علماء الطب النفسي عاكفون على إيجاد العلاجات الناجعة للإنفصام في الشخصية، فان الجدير – الى جانب هذا- بالمعنيين بالأمر التربوي والتعليمي في المجتمع أن يبذلوا اهتماماً خاصاً بهذه الحالة غير السويّة التي تنشأ في كوامن الشاب والشابة ومتابعة السلوك والتصرفات غير الطبيعية لابنائهم، والعمل على تنظيف أجوائهم النفسية من الحقد والحسد والكراهية والبغضاء، وهذا لا يعود بالفائدة على ابنائهم وحسب، وإنما عليهم ايضاً، إذ ان تبعات بعض التصرفات والمواقف غير الطبيعية ربما تطالهم ايضاً في قادم الأيام، لان الذي اعتاد عدم الاعتراف بالآخرين، لن يكون بوسعه في المستقبل التمييز بين من هو داخل الأسرة او خارجها، والفشل الذي يتعرض له في الحياة، يلحق بهم الضرر كما يلحق الضرر بجميع افراد المجتمع، ثم الإضرار بالبلد بشكل عام.

اضف تعليق