"العلم نور والجهل ظلام"، وثمة حديث نبوي شريف آخر يعضد هذا الحديث: "العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء"، فالعلم؛ سلاح، وقوة رادعة، وحصن منيع، ليس فقط للانسان الفرد – كما يعتقد البعض- يحقق من خلاله ما يريد في حياته، إنما لمجموع أفراد المجتمع حتى يشكلوا وحدة اجتماعية متنورة بالعلم، تتمكن من رفع خطوات بعيدة نحو النمو والتطور بما يحقق المصلحة العامة.
أمام هذا النور الكاشف والقوة الهائلة، يستحيل صعود اشخاص الى قمة الحكم لقيادة مجتمع كهذا، وهم قادمون من دهاليز المخابرات او من خلال التحالفات المشبوهة مع القوى الكبرى، وبما أن المجتمع من حيث الفطرة الإلهية، كجسم الانسان، لا يقوده عينه ولا رجله، ولا قوته العضلية، إنما العقل هو الذي يقود الانسان الى الصراط المستقيم، وبهذا العقل يهتدي الانسان الى العلم والمعرفة واكتشاف الحقائق في الحياة.
وبقدر اتساع مساحة التعليم في المجتمع، تضيق مساحة الديكتاتورية ويشعر الحاكم المنفرد أن عيون كُثر تقرأ أفكاره وتراقب تحركاته وقراراته، وهذا ما يجعله على صفيح ساخن يقضّ مضجعه ويسلب منه الاستقرار فترة طويلة في قمة السلطة، وعندما نقول: التعليم؛ فانه ليس مجرد القراءة والكتابة، إنما على مدياته الواسعة، بأن يكون طالب العلم والعلماء هم القادة الحقيقيين للمجتمع، وإلا فان عديد الدول التي عاشت الديكتاتورية، شهدت حملات مكافحة الأمية، منها؛ العراق، بيد ان الانسان الأمي تخلّص من مشكلة القراءة والكتابة، وسقط في أمية أخرى؛ هي الأمية الثقافية –إن صح التعبير- فقد انحصرت القراءة والكتابة في ظل نظام حزب البعث، على افكار الحزب الحاكم لا غير.
وفي الدول المتحضرة نجد أي تغيير يتجه نحو المجتمع والشعب، تخرج راياته من الجامعات والمراكز العلمية، بينما العكس في الدول غير المتحضرة، نجد أن رايات هذا التحرك تخرج من معسكرات الجيش او من دهاليز المخابرات، ولعل من ابرز الامثلة، ثورة مايو الطلابية في فرنسا عام 1968، التي دعت الى تغيير نمط الفكر السياسي الحاكم وغيرت حياة المجتمع الفرنسي بما أطلق عليه "اللاسلطوية"، ضد الطبقة الحاكمة التي اتهمت بالفساد ومصادرة الحريات.
كما يمكن ملاحظة المثال القريب في ايران الثائرة ضد نظام الشاه، فبالرغم من أن جذور الثورة كانت مستعرة من الحرمان والطبقية والامية والفساد الاخلاقي والاداري، فان الشريحة الواعية والمثقفة في المجتمع هي التي رفعت لواء التغيير، فكانت الجامعات والحوزات العلمية مراكز الشرارة الاولى لانطلاق التظاهرات الاحتجاجية، ثم التحق اليها سائر الجماهير الغاضبة على سياسات الشاه مطالبة إياه بوضع حد للديكتاتورية والصنمية التي كان الشعب الايراني – آنذاك- مثل العبيد أمام تمثال الآلهة .
كل هذا يعني حضور العلم والعلماء في اوساط المجتمع، فيكونوا مصدر تغذيته الثقافية والمعرفية، وهذا ما يشكل تهديداً خطيراً لأي نظام سياسي او فئة حاكمة تفكر بالتسيّد او الانفراد بقمة السلطة التي ترى أنها الوصي أو "ولي الأمر" للشعب لا غيرها، ولذا نلاحظ المحالاوت لكبح جماح العلماء وحصر نشاطهم العلمي وانجازاتهم وابحاثهم في زوايا خاصة بعيدة عن المجتمع ومؤسسات الدولة، فلتكن هنالك مؤتمرات وندوات تتمخض عن بحوث راقية ومعمّقة، بيد أنها لا تمس واقع المجتمع ولا تمتلك القدرة على معالجة ظواهر خطيرة مثل الفساد الاداري او تغير واقع سياسي مرير مثل المحاصصة.
إن تحجيم دور العلم والعلماء يتخذ اشكالاً مختلفة في بلادنا؛ فمن ترك اصحاب الشهادات العلمية دون استفادة حقيقية في مشاريع التنمية والتطوير، حتى أن الكاتب المصري الراحل مصطفى محمود، صرح ذات مرة بوجود 1000 دكتوراه في مصر يعيشون دون عمل، أو التغافل عن الابنية المدرسية وما يلزمها من خدمات عامة ومختبرات علمية مجهزة، وكتب مدرسية، فنلاحظ الابنية المتهالكة، فضلاً عن استمرار وجود مدارس الطين في الاقضية والنواحي والخدمات المتردية والطرق الوعرة التي لا تصلح حتى لسير المركبات بعد هطول الامطار في فصل الشتاء.
وتكون الديكتاتورية بخير، ليس فقط في بطالة العلماء ولا في انشغال الطلبة بالجري خلف الكتب المدرسية أو تجهيز المدارس بالإنارة والستائر وأقلام السبورة وحتى التنظيف! وإنما في غلق جميع منافذ التفكير العلمي لدى الطلبة لما يمكن ان يفضي الى الإسهام في مشاريع تنموية او انتاجية او عمرانية في البلد، بعد تشويه صورة الواقع في عيونهم، على أن الواقع المرير والفاسد لا يستحق الكفاح والتضحية من اجله.
ولكن؛ كون العلم نور يمزّق ظلمة السلطة الديكتاتورية ويبدد مصالحها الفئوية والحزبية، فان ثقافة نشر العلم والمعرفة بين الناس وتكريس الوعي في مجالات عدة مثل؛ الصحة والقانون والانتخابات والنظام العام وغيره، من شأنه ان يخلق واقعاً سليماً ينطلق من خلاله المجتمع لمكافحة أي نمو للديكتاتورية في أي بلد كان.
اضف تعليق