الذكرى 37 لانتهاء الحرب العراقية الإيرانية

حين خاض صدام حربًا بالوكالة وسوّقها كملحمة وطنية

مقبرة وادي السلام، التي ضمّت رفات مئات الآلاف من شباب الشيعة الذين قُتلوا ظلمًا في حرب لم يختاروها ولم يقتنعوا بها، ليست مجرد مدفن، بل شاهد صامت يدعو كل شاب شيعي إلى أن يكون يقظًا، وأن لا يتحوّل إلى مطية للفتن والمؤامرات ومشاريع التدمير التي تُدار من خلف الستار...

في مثل هذه الأيام من عام 1988، توقفت المدافع على الجبهات الشرقية، وانتهت حربٌ استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران، خلّفت أكثر من مليون ضحية، وعددًا مماثلًا من الجرحى والمعاقين، وكلفت العراق مئات المليارات، وأعادته إلى زمن الضعف والتفكك، وفوّتت عليه فرصة التقدم ومواكبة الدول المحيطة به.

توقفت الحرب دون أن يخرج منها منتصر حقيقي. ويجب أن نتذكر هذه الحرب في كل مناسباتها وصفحاتها الدامية، ونتساءل بوعي: من بدأها؟ ولماذا؟ ومن دفع الثمن؟

من خلال القرائن، لم تكن الحرب خيارًا عراقيًا، بل كانت حربًا بالوكالة خاضها صدام حسين نيابةً عن أطراف متعددة:

- الغرب الذي فقد حليفًا استراتيجيًا في طهران، كان يؤدي دورًا محوريًا في خدمة الأهداف الغربية، ونقصد هنا محمد رضا بهلوي.

- إسرائيل التي خسرت سفارتها ونفوذها في إيران بعد الثورة الإسلامية، حين حوّل الإمام الخميني سفارتها إلى سفارة فلسطينية.

- حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، الذين رأوا في قيام دولة شيعية تهديدًا وجوديًا، فدفعوا بصدام إلى المواجهة، مدفوعين بهوسهم بمحاربة التشيّع.

أما لماذا خاض صدام هذه الحرب نيابةً عن كل هذه الأطراف، فالإجابة تندرج في قضيتين: الأولى، أنه لم يصل إلى الحكم إلا بمساعدة الدوائر الغربية، وكان عليه أن ينفذ ما يُطلب منه، كغيره من حكام المنطقة الذين يطبّقون السياسات الغربية كما نرى ذلك واضحًا في أيامنا هذه. والثانية، أنه أُصيب بالإهانة والذل حين وقّع اتفاقية الجزائر عام 1975 مع شاه إيران، الذي عامله باستصغار، فشكّلت تلك اللحظة عقدة نفسية لصدام، حاول أن يمحوها باستعادة ما تنازل عنه للشاه في الاتفاقية من مياه وأراضٍ عراقية.

وكان سقوط الشاه وما رافقه من فوضى وضعف في إيران فرصة مثالية استغلها الغرب وصدام لشن هجوم واسع داخل الأراضي الإيرانية، والاندفاع عبر الحدود الدولية بمئات الكيلومترات.

حاول صدام عبر إعلامه الرسمي، أن يُظهر الطرف الإيراني على أنه من بدأ الحرب، وأن العراق كان في موقع الدفاع لا الهجوم، سعيًا لصناعة مبررات تُقنع الداخل العراقي المصدوم من اندلاع الحرب المفاجئة. لكن هذه التبريرات لم تصمد أمام الواقع الميداني.

 إذ أن التوغل العراقي السريع داخل الأراضي الإيرانية، دون مقاومة تُذكر، كشف أن الطرف الآخر لم يكن في حالة تأهب أو قد حشد قواته، ما يُشير بوضوح إلى أن العراق هو من بادر بالهجوم. حتى المواطن البسيط كان يدرك أن من يتقدم فجأة داخل أراضي خصمه هو الطرف الذي بدأ الحرب، لا ذاك الذي دُفع إليها.

كما أن البيانات العسكرية الأولى كانت صريحة في تأكيد أن العراق هو من بدأ الحرب. ففي البيان الثاني للقيادة العامة للقوات المسلحة، وردت العبارة:

"أيها العراقيون، أتعلمون أين جيشكم الآن؟ إنه بين أهله وذويه في دار خوين."

و"دار خوين" منطقة عربية داخل إقليم خوزستان الإيراني، تبعد نحو 50 كم عن الحدود العراقية، وتُعد قريبة من مدينة الأهواز. 

استخدام عبارة "بين أهله وذويه" يكشف عن أطماع واضحة، ويُظهر أن صدام كان يعتبر تلك الأرض عراقية، وسكانها من العرب الإيرانيين بمثابة "أهل" الجيش العراقي. 

حتى الاناشيد الحربية التي بثتها إذاعته بداية الحرب كانت تؤكد هذا المنحى، ومنها نشيد "خضر وهيله ردت النه بيوم وليله"، في إشارة إلى المخافر الحدودية التي تنازل عنها عام 1975 واستولى عليها الجيش العراقي في الساعات الاولى للحرب.

الأوضح من كل ذلك أن صدام حسين، في سياق تبرير الحرب، حاول فرض شروط على إيران، من بينها إعادة جزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى إلى دولة الإمارات، وهي جزر متنازع عليها بين الطرفين منذ سبعينيات القرن الماضي.

هذا المطلب، الذي لا يمت بصلة مباشرة للنزاع العراقي الإيراني، يكشف عن طبيعة الحرب كصراع بالوكالة، ويُشير بوضوح إلى أن العراق لم يكن يخوض حربًا دفاعية، بل كان في موقع الهجوم، يسعى لفرض شروط إقليمية تتجاوز حدوده.

ومنطق الحرب يقول إن الطرف الذي يفرض الشروط هو الطرف الذي بدأها، لا ذاك الذي دُفع إليها. فالمبادرة العسكرية، والاندفاع داخل الأراضي الإيرانية، والمطالب السياسية العابرة للحدود، كلها مؤشرات على أن صدام كان الطرف المهاجم، لا الطرف المدافع.

ولكن بعد عامين من الحرب، وبعد أن تمكن الإيرانيون من لملمة قواهم واستعادة مدينة خرمشهر (المحمرة) الاستراتيجية التي كلفتنا خسائر فادحة، تغيّرت لهجة صدام السياسية والإعلامية، وسارع إلى الانسحاب نحو الحدود الدولية، ملبّيًا أحد مطالب إيران لإنهاء الحرب. وتحوّل الخطاب من "استعادة الأرض المسلوبة" إلى "الدفاع عن السيادة"، وتبدلت الأناشيد والبيانات لتواكب هذا الانحدار المهين.

وإذا أردنا أن نقرأ هذه الحرب من زاوية اجتماعية داخلية، فإن الطائفة الشيعية كانت الأكثر تضررًا، والأكثر استهدافًا، والأقل تمثيلًا في القرار السياسي والعسكري.

واستمرت الحرب ثماني سنوات، ظل خلالها الشيعة العراقيون يحصون ضحاياهم، ويزداد فيها عدد الأرامل والأيتام والمفقودين، في حرب لم يعرفوا لماذا بدأت، ولا متى تنتهي. حربٌ خاضوها دون قناعة، ودفعوا فيها الثمن الأكبر، بينما بقيت أسبابها غامضة أو مفروضة عليهم من رئيسهم.

تمكنت القوات الإيرانية خلال مراحل متقدمة من الحرب من التوغل داخل الأراضي العراقية، واحتلال او تهديد مناطق استراتيجية مثل الفاو والقرنة والعزير وقلعة صالح وغيرها، وبدا واضحًا أن صدام حسين لم يكن قادرًا على تحقيق نصر حاسم، بل كانت قواته في حالة تراجع مستمر.

ومع تصاعد الخسائر، بدأت أعداد كبيرة من الجنود العراقيين، خصوصًا من أبناء الطائفة الشيعية، برفض الاستمرار في الحرب، وشهدت الجبهات حالات تمرد صامتة، ورفض داخلي لمواصلة القتال. 

ردّ النظام كان دمويًا، إذ كثرت عمليات الإعدام الميداني ضد الجنود من أبناء الوسط والجنوب، في محاولة لترهيبهم وكسر إرادتهم، وكأنهم لا يُقاتلون من أجل وطن، بل يُساقون إلى محرقة لا خيار فيها.

المفارقة التي صدمت العراقيين ان صدام اعترف بعد اسابيع من انتهاء الحرب بأنها لم تكن خيارًا عراقيًا، بل فرضتها قوى غربية أرادت إنهاك الطرفين.

 قال في أحد لقاءاته المتلفزة: "الحرب العراقية الإيرانية لم نخترها، بل دُفعنا إليها من قبل قوى غربية أرادت إنهاك الطرفين. الغرب دعم إيران والعراق بالسلاح، بهدف إطالة أمد الحرب."

وبهذه المناسبة المؤلمة، على الأجيال الشيعية الشابة أن تدرك أن من دفع الثمن الأكبر في تلك الحرب كانوا شيعة العراق، الذين مثّلوا الغالبية العظمى من الجنود والمراتب، بينما شغل السنة مواقع الضباط، ومن كان منهم في الرتب الدنيا بقي في الوحدات الخلفية، بعيدًا عن خطوط النار.

في اجتماع عشائري في تكريت -مطلع ثمانينيات القرن الماضي- حضره خير الله طلفاح، خال صدام حسين ووالد وزير الدفاع آنذاك عدنان خير الله، قال طلفاح بوضوح:

"يجب ألا يموت أبناء السنة في هذه الحرب، خليها بين الشيعة والإيرانيين، هدّينا كلابهم عليهم."

وهو وصف عنصري وطائفي مقيت، أراد من خلاله الإيحاء بأن الحرب شيعية–شيعية، بينما الحقيقة أن شيعة العراق لم يختاروها، ولم يقتنعوا بها، بل فُرضت عليهم قسرًا من قبل نظام صدام.

ما يؤكد هذا التوجه الطائفي ما قاله أحد أبناء العشائر السنية، رعد سليمان، في لقاء تلفزيوني صريح قبل اسابيع:

"الشيعة خطية كانوا وقود تلك الحرب، بينما كنا نحن السنة هاربين من الجيش."

واللافت أن من يهرب من الجيش من أبناء الطائفة السنية خلال الحرب لم يكن يُعدَم أو يُطارد، بينما كان الهاربون من الشيعة يُهانون ويُعدَمون، وتُفتَّش منازلهم يوميًا بحثًا عنهم، وكأنهم لا يُقاتلون من أجل وطن، بل يُساقون إلى محرقة طائفية لا خيار فيها.

في الذكرى الـ37 لانتهاء الحرب، لا نحتاج إلى أناشيد جديدة، ولا نحتاج الى قائد ضرورة لايشعر بمعاناة شعبه ويقودهم الى المهالك، بل نحتاج وعيا جديدا.

المطلوب من شيعة العراق اليوم أن يكونوا أكثر وعيًا، وألا يُقادوا مرة أخرى إلى حرب بالوكالة، سواء ضد هذا الطرف أو ذاك. فالتاريخ لا يُعيد نفسه إلا حين يتم نسيانه او تناسيه.

إن مقبرة وادي السلام، التي ضمّت رفات مئات الآلاف من شباب الشيعة الذين قُتلوا ظلمًا في حرب لم يختاروها ولم يقتنعوا بها، ليست مجرد مدفن، بل شاهد صامت يدعو كل شاب شيعي إلى أن يكون يقظًا، وأن لا يتحوّل إلى مطية للفتن والمؤامرات ومشاريع التدمير التي تُدار من خلف الستار.

الوعي ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية. ومن لا يقرأ التاريخ بعين المتفحص الواعي، يُكتب عليه أن يعيشه من جديد، وبثمنٍ أفدح.

اضف تعليق