ثقافة وإعلام - كتب

ما الخيال؟

وبصرف النظر عن الأوهام، فإن كثيرًا من الفضل في فهمنا للواقع نفسه يعود إلى الخيال. يمكننا أن نبدأ بفهمنا للماضي. قد يكون فهمنا للتاريخ فهمًا جامدًا وأقل حيوية، أو غير مكتمل حتى، إذا لم يكن لدينا وسيلة لوضع المعرفة في سياق تجريبي. إذ يمكننا أن نتخيل بما...

قدرة البشر على التخيُّل تقريبًا غير محدودة؛ إذ من خلاله يمكننا التفاعل عقليًّا مع الأفكار دون التقيد بقيود الواقع. وتسمح ممارسة الخيال بالهروب من حياتنا العادية دون أن نغادرها. ومع ذلك، يغدق الخيال أيضًا على حياتنا الإمكانيات. ففي حين لا يمكننا التدخل في الواقع ببساطة عن طريق تخيُّله بشكل مختلف، يمكننا النظر إليه في شكل جديد. إذ يمكننا تجاوز القيود الراهنة وتغيير الأحوال القائمة ونحن معزَّزون بالخيال. 

قيمة التجربة الخيالية وتنوعها

للخيال نطاقٌ واسع، وهو يميز الحياة البشرية بعدد لا يُحصى من الطرق. ومن أجل أن نفهم الخيال، يجب أن ندرك أولًا مدى تنوع مساهماته في تجربتنا. فالخيال هو وسيلة الأطفال في اللعب التظاهري والجمهور في اندماجهم في الدراما واستيعابهم لها. كما يواسي من مات أحباؤهم برؤًى تتجاوز الحياة الدنيوية. ويساعد الفنانين في تصوير الحياة من منظورات جديدة، فيخلقون عوالم مُتخيَّلة للقرَّاء ليعيشوا فيها افتراضيًّا. وهو المسئول عن الابتكار. فاختراع الطائرة الورقية في الصين القديمة، وتصميم الأهرامات المصرية، والهبوط على القمر، وازدهار التكنولوجيا الطبية، كلها مدينة للخيال البشري من بين المهارات المعرفية الأخرى.

والخيال بالطبع أيضًا هو الوسط الذي تظهر فيه الأوهام وأحلام اليقظة. فقد يحلم الأطفال بأنهم قادرون على الطيران، أو أنهم يمتلكون قوة الأبطال الخارقين، ويدمجون أوهامهم هذه في اللعب. ويستمتع الكبار كذلك بسيناريوهات بعيدة الاحتمال - كأن يصبحوا أبطالًا في الملاكمة أو التزلج الفني على الجليد، أو يفوزوا باليانصيب - أو بسيناريوهات مستحيلة - مثل تفادي الموت. بالنسبة للخيال، لا يهم كم قد تكون هذه الاحتمالات ضئيلة أو منعدمة في الحياة الحقيقية. إذ يمكن له اقتطاع نصيب مما هو أبعد من المحتمل أو حتى الممكن.

وبصرف النظر عن الأوهام، فإن كثيرًا من الفضل في فهمنا للواقع نفسه يعود إلى الخيال. يمكننا أن نبدأ بفهمنا للماضي. قد يكون فهمنا للتاريخ فهمًا جامدًا وأقل حيوية، أو غير مكتمل حتى، إذا لم يكن لدينا وسيلة لوضع المعرفة في سياق تجريبي. إذ يمكننا أن نتخيل - بما يتوافق مع الحقائق المعروفة، ولكن بتجاوز ما هو معروف بدقة - كيف كانت الحياة بالنسبة لجندي في إسبرطة القديمة، أو لكاتب في إيطاليا العصور الوسطى، أو لنا إن كنا حاضرين عند توقيع إعلان الاستقلال الأمريكي. إن الثقافة من نواحٍ عدَّة هي إرثُ الخيال.

حتى الروايات الأدبية يمكن أن تُعيد الأحداث والأماكن التاريخية إلى الحياة من خلال زرع شخصيات خيالية في خضمِّها. فبينما لا نتطلع إلى رواية ليو تولستوي «الحرب والسلام» (١٨٦٩) للحصول على أدلة تاريخية حول روسيا القرن التاسع عشر، فإن الرواية يمكن أن تساعدنا في تخيُّل ثقافتها تحت تأثير الحروب النابليونية. وأعادت الروائية الأمريكية الحائزة جائزة نوبل توني موريسون، في روايتها بعنوان «جاز» (١٩٩٢)، إحياء عصر النهضة في هارلم والجنوب الأمريكي خلال بداية القرن العشرين لأولئك الذين وُلدوا بعد ذلك بفترةٍ طويلة من خلال الجمع بين البحث التاريخي وقوة خيالها.

بمساعدة الأعمال الخيالية، يمكننا أيضًا التفكير في وجهات النظر المختلفة في زماننا الحالي. فعندما نضع أنفسنا «مكان شخص آخر»، نتبنى بذلك وجهة نظر متخيَّلة. وبالخيال، يمكننا أن نحاول الوصول إلى فهمٍ أفضل لأولئك الذين يختلفون عنا. وعندما نفشل في هذا التخيل، قد تبدو الاختلافات أكثر صعوبة في التجاوز مما هي عليه. لذا، يؤدي الخيال دورًا مهمًّا في الحياة الأخلاقية والسياسية.

والخيال يتلاعب أيضًا بعنصر الزمن. فنحن لا نتذكر الماضي وحسب، ولكن قد نراه في ضوء جديد. إذ يمكن تخيل الأخطاء التي ارتكبناها كأنها لم تحدث في عقولنا. وبينما قد يغذي هذا شعورنا بالندم، فيمكن أن يساعدنا هذا التأمل أيضًا في التعلم من أخطاء الماضي. ويمكننا تأمُّل الحاضر من خلال تخيُّل بدائل له. فيمكننا تصوُّر طرق أخرى ممكنة للعيش في الوقت الراهن، وتصميم أهداف مستقبلية نستهدفها.

نظرًا لهذه المرونة الهائلة، جرى تبجيل الخيال لتوسيعه نطاق الحياة البشرية ومساهماته في الإنجاز البشري. ومع ذلك، أُلقي عليه باللوم بسبب الاضطرابات التي يتسبَّب فيها في إحساسنا بالواقع. إذ يمكن لنا أن نخضع للآمال الكاذبة ونحن منشغلون بالخيال المبالَغ فيه. كما قد يُشعِل الخيال العواطف، ويُغذِّي مشاعر القلق والمخاوف المبالغ فيها. والخيال هو أساس نظريات المؤامرة، وعندما يُدمَج مع الهواجس الثقافية يمكن أن يُغذي التحيز. وفي حين يُحتفى بالخيال على نطاقٍ واسع في الثقافة الشعبية اليوم، فقد جرى التنديد به على مدار التاريخ لخلطه بين الوهم والإدراك، والسراب والحقيقة.

ويعود الهجوم على الخيال في الأساس إلى أيام أفلاطون. وعلى الرغم من كونه فيلسوفًا واسع الخيال وميالًا إليه بشكل استثنائي، فقد قدَح في الخيال في كتابه «الجمهورية» (نحو ٣٧٥ قبل الميلاد)، واصفًا إياه بأنه سبيل الخطأ والالتباس. وفي القرن السابع عشر، أعلن عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال أن الخيال «عدو العقل». وفي كتابه الذي بعنوان «خواطر» (١٦٦٠)، وصف باسكال الخيال بأنه «الجانب الخادع في الإنسان، ومصدر الأخطاء والزيف، وهو خادع بصفة خاصة لأن أوهامه ليست دائمًا واضحة». ولأنه «غالبًا ما يكون خاطئًا»، كان باسكال يعتقد أن الخيال «لا يمكن أن يحدد قيمة حقيقية للأشياء». وفي روايته «راسيلاس» (١٧٥٩)، اعتبر الكاتب البريطاني صامويل جونسون أن الخيال مفسد؛ فهو يُغري العقل ليتمتع ﺑ «الزيف اللذيذ» كلما «ساءته مرارة الحقيقة». في تلك الرواية، تمثِّل شخصية عالم الفلك المجنون فكرة الإسراف في الخيال؛ إذ يعتقد ذلك العالِم أن له «سيادة خيالية» على أحوال الطقس، فيوزع ضوء الشمس والمطر حول العالم كما يشاء. وفي العقود الأخيرة، درس علماء النفس قدرة الخيال على تشويه الذكريات، أو قدرته على خلط شعور التذكر بالأفكار التي جرى تخيلها بدلًا من الأفكار التي جرى تذكُّرها، وهو الأمر الذي لا يزال محلَّ جدل.

وباعتبارهما من نتاج الخيال، جرى انتقاد الأدب والفنون لاشتمالهما على أوهام العواطف غير العقلانية أو تعزيزها. كان أفلاطون قلقًا من أن الفنون - وخاصةً الشعر الدرامي والملحمي - ستضلل المواطنين؛ مما يكدِّر النظام الاجتماعي. وحذَّر جونسون من أن رفاهيات الخيال ستجعل العقل يرفض «رتابة الحقيقة». كما صوَّر الكاتب الإسباني ميجيل دي سيرفانتس بطل روايته «دون كيخوته» (١٦٠٥) بأنه قد تأثر على نحوٍ سخيف بالأدب الخيالي. فالرجل الذي نصب نفسه فارسًا بعد قراءته العديد من قصص الفروسية يضرب ببصره الخيالي في كل مكان، ويرى العالم كما يتخيله. فيقاتل طواحين الهواء التي يتخيل أنها عمالقة متنكرة كطواحين. وتكمن المفارقة في معالجة سيرفانتس بالطبع في أن قارئه ينخرط أيضًا في عالَمٍ خيالي.

وعلى عكس سيل الانتقادات، رأى بعض الفلاسفة أن الخيال تعزيز للعقل البشري. فقد انحرف أرسطو عن درب معلمه أفلاطون، وزعم أن الفكر كله يتطلب الخيال. فالعقل لا يفكر أبدًا بدون صورة، كما زعم؛ فالصور - التي هي واحدة من أدوات الخيال الرئيسية - هي مادة الفكر الأساسية. وفي معالجته للشعر الدرامي، أشاد أرسطو بالقدرة على تأمُّل الاحتمالات؛ مما يتيح فهمًا لما حدث، بل ولما «يمكن» أن يحدث. وسيتردد صدى هذا التقدير في القرن الثامن عشر مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط وظهور فلسفة الجمال. وسيشرح الكتَّاب الرومانسيون بتفصيلٍ كبير وحماسة شديدة فكرةَ الخيال الإنتاجي الذي يُنسب إليه التفكير في الاحتمالات.

ومنذ القرن التاسع عشر، حيث أصبح التفكير العلمي ثقافةً مستقلةً عن العلوم الإنسانية والفنون أو مناوئة لها حتى، أصبح الكتَّاب الأدبيُّون هم المدافعين المخلصين عن الخيال. فقد أشاد الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز بالخيال، ورأى أنه يمثل قدرة العقل على إدراك إمكانيات الأشياء. فكتب في كتابه «الملاك الضروري: مقالات عن الواقع والخيال» أن الخيال يخفف «ضغط الواقع» من خلال خلق منظورات أخرى لعقولنا للنظر فيها. ووصف الشاعر الأيرلندي الفائز بجائزة نوبل شيموس هيني في كتابه «إصلاح الشعر» كيف يتيح لنا الخيال الاستجابة بشكل مختلف تجاه المصائب؛ مما يتيح لنا التعرف على طبيعة محنتنا والنظر في الإصلاح الممكن - «إمالة موازين الواقع نحو توازن متجاوز.» بسبب هذا، يزعم هيني أن للخيال «تأثيرًا مُحرِّرًا ومعاونًا على روح الفرد.»

قد يكون من الصعب استيعاب أن القدرة نفسها التي تتيح لنا تجنُّب ضغوط الواقع، أو التي يمكن أن تخلطه علينا، قد تكون مطلوبة لفهمه. ومع ذلك، فإن الاكتشافات العلمية تدين بالكثير للخيال. فقد اشتهر عن ألبرت أينشتاين إشادته بالخيال بأنه «أكثر أهمية» من المعرفة، كما فصَّل استخدامه الخاص له في تحقيق اكتشافات في الفيزياء أحدثت ثورة في فهمنا للمكان والزمان. إذ وصف عمليات التصور الداخلي التي استدعى من خلالها سيناريوهات افتراضية لاختبار المعرفة الحالية مقابلها. كما وصف شعوره بالإلهام أثناء عزف الكمان، حيث كانت تظهر الأفكار كصور في ذهنه قبل التعبير عنها باللغة والمفاهيم العلمية.

قد يُعَد خيال أينشتاين الخاص حالةً استثنائية من العبقرية. ومع ذلك، كان هو نفسه يعتقد أن الخيال مطلوب لكل أشكال التقدم العلمي. حيث كتب في كتابه «تطور الفيزياء» (١٩٣٨) يقول: «إن إثارة أسئلة واحتمالات جديدة، والنظر إلى مشكلات قائمة من زاوية جديدة، يتطلبان الخيال الإبداعي، ويميزان التقدم الحقيقي في العلوم.» وقد ردَّد علماء آخرون صدى تقدير أينشتاين للخيال. إذ عبَّر الحائزان على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب، فرانسوا جاكوب (١٩٦٥) وإريك آر كاندل (٢٠٠٠) ببلاغة عن التشابه الشديد بين البحث العلمي والإبداع الفني، في حين وصفت إليزابيث بلاكبيرن (٢٠٠٩) «عملية البحث العلمي التي يكشف الإبداع والعبقرية البشريين من خلالها عن نمط داخل ما بدا كأنه فوضى وغموض» بأنها جميلة. وسواء أكان الخيال أكثر أهمية من المعرفة أم لا، فقد قال العلماء بأن المعرفة الحالية لا يمكن أن تتطور بدونه.

لقد وصفنا حتى الآن كيف يتيح لنا الخيال الهروب من الواقع، وكيف يشوِّه إحساسنا به، وكيف يتيح لنا النظر إليه من منظورٍ جديد، وحتى فَهْمه. ومن اللعب والأحلام إلى الفنون والعلوم، يقع الخيال موقع القلب في كثير من التجارب والإنجازات البشرية. هل يعمل الخيال بشكل مختلف عبر هذه الأنواع المختلفة من التجارب؟ هل نتحدث حقًّا عن القدرة نفسها، أم إن هذه التجارب تُظهر مجموعة متنوعة من القدرات العقلية؟ 

* مقتطف من كتاب: (الخيال: مقدمة قصيرة جدًّا)، جينيفر جوزيتي-فيرينسي، نشر مؤسسة هنداوي.

اضف تعليق