«نوردو» وضع كلَّ الشخصيات الرئيسية في ثقافة نهاية القرن تحت مجهره النقدي، واستنتج أنهم جميعًا كانوا ضحايا حالات عقلية ذاتية، الفنان الحديث المنحل، مثل قرينه المجرم يفتقد الحسَّ الأخلاقي، لا وجود عندهم لقانون أو احتشام أو حياء، نظرتهم وأعمالهم يتخلَّلها الاسترسال العاطفي والهيستريا، والسأم ذلك المرض القديم للرومانتيكية...
مع بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، لم يَعُد أحدٌ ينظر إلى الانحلال أو التفسُّخ كشيء غريب أو شاذ، أصبح المفكرون يرونه جزءًا حتميًّا من الحياة الحديثة، مثلما كانت الطبقة الدنيا نتاجًا طبيعيًّا للحضارة الصناعية عند «تشارلز فيري»، وقد اتخذت تحديات الانحلال أشكالًا متنوعة جديدة ومروعة؛ ففي سنة ١٨٩٢م نشر الطبيب والصحفي الهنغاري «ماكس نوردو» كتابَه «الانحلال» الذي أهداه إلى «سيزار لومبروزو»، وبالرغم من حجمه الكبير (٦٠٠ صفحة تقريبًا)، إلا أنه سرعان ما أصبح من أفضل الكتب مبيعًا، وظهرَت ترجمات له في اثنتَي عشرة لغة.
قام «نوردو» بتفصيل تحليلات «لومبروزو» لكي يوضحَ أنَّ المنحلِّين ليسوا دائمًا مجرمين أو داعرات أو مجانين... وإنما يمكن أن يكونوا -غالبًا- مؤلفين وفنانين. «شارل بودلير» والشعراء الفرنسيون «المنحلون»، «أوسكار وايلد» (النموذج الأصلي للكونت «دراكيولا» عند «برام ستوكر»)، «مانيه» والانطباعيون، «هنريك إبسن»، «ليو تولستوي»، «إميل زولا» بالإضافة إلى «فاجنر» و«فردريك نيتشة».
والحقيقة أنَّ دكتور «نوردو» وضع كلَّ الشخصيات الرئيسية في ثقافة نهاية القرن تحت مجهره النقدي، واستنتج أنهم جميعًا كانوا ضحايا «حالات عقلية ذاتية»، الفنان الحديث المنحل، مثل قرينه المجرم يفتقد الحسَّ الأخلاقي، «لا وجود عندهم لقانون أو احتشام أو حياء»، نظرتهم وأعمالهم كلُّها يتخلَّلها الاسترسال العاطفي والهيستريا، بالإضافة إلى «السأم» ذلك المرض القديم للرومانتيكية. وكان «نوردو» يُرجِع ذلك لحالتهم العصبية الضعيفة. كتب: «المنحل والمخبول هم التلاميذ الحتميُّون ﻟ «شوبنهاور».»٤٩ كما كتب: «التشاؤم هو الفكرة الأساسية للعصر.»
وكأنه كان يردِّد ما سبق أن قاله «توكفيل» قبل أربعين عامًا. كان يشعر باستياء شديد من جانب رجال مثل «جوبينو» و«نيتشة» بالنسبة للتغيُّرات التي جاء بها القرن التاسع عشر. ومثل كل الكاثوليك المحافظين المعادين للسامية في موطن نوردو «النمسا-هنغاريا» (نوردو كان يهوديًّا)، كان أولئك المثقفون يسخرون من إنجازات القرن في المعرفة العلمية والنمو الاقتصادي والديمقراطية الشعبية، ولكن «نوردو» أطلق هجومَه المضاد من مختبره الطبي، زاعمًا أنَّ التشاؤم كان نتيجةَ فساد فسيولوجي أوسع يُصيب المجتمع الحديث بالعدوى. كانت النخبة الفنية والفكرية الأوروبية مجبرةً بحكم التطوُّر على إنتاج «فن منحط»، وهو الاصطلاح الذي روَّج له «نوردو»،٥٠ وجعله يشيع على نحوٍ أخرق، والأكثر من ذلك أنه زعم أنَّ رسامين انطباعيِّين مثل «مونيه» Monet، و«سيورات» Seurat، كانوا يستخدمون ألوانًا أرجوانية وزرقاء قوية في رسومهم نتيجة مرض عصبي اسمه «الرأرأة»٥١⋆ يُعشِي ويشوِّه الرؤية،٥٢ وكان «نوردو» مدفوعًا للاستنتاج أنَّ الأمل الوحيد للحضارة الأوروبية كان معلَّقًا على الشعب العامل، لا أمل في الأرستقراطية الأوروبية ولا الطبقات الغنية؛ حيث إنَّ «المنحلِّين يوجدون دائمًا بين الطبقات العليا.»٥٣ وبدلًا من ذلك، فإن الفلاحين والعمال وأصحاب المساكن من البرجوازية الصغيرة والذين يعملون بأيديهم، والنساء الباقيات بالمنازل لتربية أطفالهن، هؤلاء هم الذين سيحفظون حيويةَ النوع، بالإضافة إلى الأخلاق التقليدية. أما استنتاجه النهائي (وهو استنتاج غريب لواحد من أشد المعجبين بالمجتمع الصناعي)، فهو أنَّ غنَى وبحبوحة أوروبا قد استطاعا أن يدمِّرا الحيوية والثقة بالنفس، مخلِّفين قافلةً من المنهارين عصبيًّا والمنحطِّين أخلاقيًّا.
من ناحية أخرى، فإن الحياة النشطة والعمل الجسماني سيؤديان إلى «حضارة صدق، وحب للجار، وبهجة.»٥٤ إطراء «نوردو» على الجهد العضلي أصبح جزءًا من حملة واسعة النطاق في أواخر القرن التاسع عشر تدعو لممارسة الرياضة والاهتمام باللياقة البدنية، الأطباء والمدرسون والمصلحون الاجتماعيون والسياسيون، كلهم وجدوا أنَّ ممارسة الرياضة النشطة خارج المنازل، يمكن أن تكون عملًا مضادًّا لقوى الانحلال والتفسُّخ الخطرة، فوائدها الجسمانية سوف تقوِّي من الصالح الأخلاقي، بالإضافة إلى إنعاش السلالة، وكانت النتيجة هي الحماس الشديد للألعاب الرياضية واللياقة البدنية والإقبال عليها. انتشرَت الأندية الرياضية في كل ألمانيا، بينما أصبحت الحركة الشبابية الألمانية تُعرَف بمعسكرات الخلاء وحمل الحقائب على الظهور في الغابات والجبال، الهوس بركوب وسباق الدراجات في فرنسا (موجود الآن في «الرحلة حول فرنسا») وبالرجبي وكرة القدم في إنجلترا، والحدائق العامة والبيسبول في أمريكا، كان ذلك جزءًا من الرغبة نفسها لخلق مجتمع رجال ونساء أصحاء، يستيقظون مبكِّرين ولا يكونون مرهقين عند الغروب، رجال ونساء لهم عقول صافية وعضلات قوية بعبارة٥٥ «نوردو»، كما ساعد «نوردو» نفسه في إنشاء «جريدة الرياضة البدنية اليهودية»، وأكَّد على أهمية قيام ثقافة «اليهودية العضلية» لمواجهة الاتهامات التي تقول إنَّ اليهود كانوا جنسًا للانحلال الجسماني.٥٦
نظريات «نوردو» أعطَت انعطافةً جديدة لكيفية التداخل بين التطوُّر البيولوجي للإنسان وتطوُّر المجتمع التاريخي، ثم كانت هناك إمكانية رابعة مقلقة أخرى تُقدِّم نفسها، حتى الأنواع البشرية الصحيحة (صحيًّا)، والتي تعيش في مجتمع متقدِّم، يمكن أن تنحلَّ إلى نوع أقل وأضعف جسمانيًّا وأخلاقيًّا، إذا لم يتمَّ اتخاذ خطوات تصحيحية، ومثل «لومبروزو» ظلَّ «نوردو» متفائلًا بشأن المستقبل، ولكن أرضية التفاؤل كانت في حالة انكماش مطرد، فقد اضطرت نظريةُ الانحلال كثيرين لأن يستنتجوا أنَّ المجتمع الصناعي الحديث يمضي نحو مستوًى من التقدم لم يَعُد الجنس البشري قادرًا على مجاراته، وبرزَت مجموعة من المفكرين في تسعينيات القرن التاسع عشر للإيحاء بأن الحضارة الحديثة كانت في قبضة قوًى خفية، لم يَعُد النظام الاجتماعي والسياسي العاديَّان قادرَين على السيطرة عليها.
ادِّعاء «لومبروزو» بأننا «محكومون بقوانين صامتة، تحكم المجتمعَ بسلطة أكبر من القوانين المدوَّنة في سجلَّات نُظُمِنا التشريعية»، سوف يكتسب أهميةً جديدة في أعمال «جوستاف لوبون» Gustav Le Bon، و«إميل دوركايم» Emile Durkheim، و«ماكس فيبر» Max Webber.
في سنة ١٨٩٥م نشر «لوبون» كتابه «العامة». كان طبيبًا مشهورًا وأحدَ المعجبين بالخبير الطبي الفرنسي (في الانحلال) «جان مارتان شاركوت» Jean Martin Charcot، الذي كان بدوره أحدَ معلِّمي «سيجموند فرويد» Sigmund Freud، كان «لوبون» قد قام ببعض الأبحاث الفسيولوجية عن الجمجمة وحجم المخ، و«استنتج» أنَّ مخ الرجل في المجتمع الحديث يصبح أكبرَ حجمًا، علامة على الطاقة الذهنية المتنامية، بينما ينكمش حجم مخ المرأة،٥٧ بعد ذلك ترك المسماك والكرانيوميتر٥٨⋆ ووجَّه اهتمامه نحو السلوك الجماعي في المجتمع الصناعي وخاصة سلوك العامة. زعم «لوبون» أنَّ الأفراد عندما يتجمَّعون في الشارع أو في اجتماع سياسي، فإنهم يُحدِثون شررًا في كلٍّ منهم الآخر، يدفعهم نحو رِدَّة جماعية للحالة البدائية، كما كتب يقول: «الإنسان يهبط عدة درجات على سُلَّم الحضارة، بمجرد أن يكون جزءًا من زحام أو حشد منظَّم.» «وهو بمفرده» قد يكون فردًا مهذَّبًا، ولكنه بربريٌّ هجميٌّ وسط الزحام، ويصبح قادرًا على إتيان الأفعال اللاعقلانية والوحشية التي تميِّز مثيري أعمال الشغب والعنف، والدهماء في الشوارع، فهو «لديه العنف والعفوية والوحشية «وكذلك» حمية وبطولة الكائنات البدائية.»٥٩
وحيث إنَّ الحياة المدينية الحديثة والسياسات الديمقراطية تخلق الكثير من الفرص لمثل هذا النوع من السلوك الارتدادي الجماهيري، «وغريزة القطيع» بتعبير مُنظِّر آخر هو «وليم تروتر» William Trotter، فإن أخطارًا شديدة كانت تلوح في أفق المجتمع الصناعي الأوروبي، وكما شرح «لوبون» مردِّدًا كلام «بوركهارت» … «إنَّ حلول قوة الجماهير من علامات المراحل الأخيرة في الحضارة الغربية … حضارته الآن بلا استقرار، العامة يهيمنون، ومدُّ البربرية يعلو.»٦٠ ومن هنا فإن الطبيعة «الحقيقية» للديمقراطية الشعبية، كانت في حاجة إلى أسلوب جديد للتعامل مع السياسة، المؤسسات البرلمانية أو التشريعية التقليدية لم تَعُد قادرةً على السيطرة على الجماهير كما حذَّر «لوبون»، العامة يبحثون بأسلوبهم المرتد إلى طبائع السلف عن فردٍ قويٍّ - بدلًا من قائد - يستطيع أن يوجِّه طاقاتِهم اللاعقلانية نحو أهدافٍ بنَّاءة.٦١⋆
واستنتج «لوبون» أنَّ القائد الطبيعي للعامة (الجماهير) يشعُّ القوة الشخصية ذاتها، التي كانت تميِّز شيخ القبيلة أو الطبيب الساحر (الحكيم) في القبيلة البدائية، وبدرجةٍ أكبر مما يشعُّها مَن هم أقل منه شأنًا. «لوبون» يسمِّي ذلك ﺑ «الهيبة»، بينما يُطلِق عليها «ماكس فيبر»: «الكاريزما». لم يُبدِ «فيبر» أبدًا اهتمامًا شديدًا بنظرية الانحلال، وأفكاره اتخذت شكلًا في إطار مختلف تمامًا عن جدل سبعينيات وثمانينيات القرن «التاسع عشر» بين علماء الجريمة الإيطاليِّين وعلماء الطب الفرنسيِّين، بيد أنَّ نظريتَه عن «الكاريزما»، وتمييزه الشهير بين القوة البدائية الخلَّاقة للكاريزما، والمؤسسات القائمة على الروتين العقلاني (والضعيف)، كانت ذات صلة وثيقة بالتفكير الانحلالي، وبالنسبة ﻟ «ماكس فيبر» فإن الروتين المعقلن يحدِّد الحضارة الحديثة، إلا أنه يمكن أن يكون «قفصًا حديديًّا» بالنسبة للفرد، ومقيَّدًا مثل أيِّ مجتمع بدائي.٦٢
من جانب آخر، فإن «إميل دوركايم» كان شديدَ الاهتمام بالملامح الرئيسية لنظرية الانحلال وآثار ما أطلق عليه مصطلح «الحضارة المفرطة» على الإنسان الحديث. كان خوفه الشديد هو أنَّ الحضارة الحديثة يمكن أن تدمِّر أدواتها الإنسانية بالإخلال بالتوازن بين «القوى الحيوية» التي تحفظ الكيان الاجتماعي العضوي حيًّا. ويقول «دوركايم»: «إذا كان هذا الكيان الاجتماعي العضوي قويًّا، فإن الأفراد يصبح لديهم نشاطٌ وقوة أكبر على المقاومة «ضدَّ صدمات التغيُّر الاجتماعي»، إذا فقد الكيان الاجتماعي «الكلي» توازنَه، يشعر الأفراد بالنتائج في صحتهم العقلية والجسدية.» باختصار، سيصبح الناس مرضى؛ لأن مجتمعهم مريض. «الأسباب العضوية هي في الغالب أسباب اجتماعية، تحوَّلت وثبتَت في الكيان الكلي.» كما يقول، مخلِّفة توجُّهات غير صحية في المجتمع؛ مثل انخفاض معدل المواليد وزيادة معدلات الانتحار.٦٣
كتاب «دوركايم» المهم: «الانتحار» ١٨٩٧م خرج مباشرةً من رحم نظرية الانحلال، ومثل «لومبروزو» فإن «دوركايم» لم ينظر إلى «المرضى» و«العادي» كنقيضَين نهائيَّين.
الانتحار مثل الجريمة، كانا في أقصى النهاية في مقياس انزلاقي من الاستجابات للمجتمع الصناعي الحديث، «النيوراستينيا»٦٤⋆ تأتي أولًا (الفرد يمكنه فقط أن يحافظ على نفسه في مجتمع، إذا كان لديه تكوينٌ عقليٌّ وأخلاقي معادل، وهذا لا يتوفر لمريض النيوراستينيا)، ثم الاكتئاب، وأخيرًا الشعور بالاغتراب واليأس المفضي للانتحار، والذي يقول عنه «دوركايم» إنه «الفدية التي ندفعها للحضارة!»
الحضارة المفرطة التي تُولِّد الميل للاغتراب والشعور بالضياع والميل الأنوي، هي أيضًا التي تُهذِّب النظام العصبي وتجعله رقيقًا، ومن خلال ذلك يصبح أقل قدرة على الارتباط الوثيق بشيء محدَّد، كما يصبح نافدَ الصبر على أي سلوك منظَّم، وأكثر عرضة للانزعاج العنيف والاكتئاب الشديد.٦٥
عند «دوركايم» الحضارة بمعناها الكلاسيكي - التقدم الاقتصادي، المعرفة العلمية والتكنولوجية وتقدُّم الفنون - مجرَّدة من المحتوى الأخلاقي، التقسيمات التنويرية القديمة، زيادة السلوك المهذَّب، الروح الاجتماعية، رُقِيُّ الطباع … كل ذلك يتمُّ إقصاؤه، المجتمع التجاري الصناعي منظَّم بشكل يجعله يَفِي باحتياجات الإنسان الفيزيقية والمادية، ولكن (بعيدًا عن أنه يخدم التقدم الأخلاقي) فإن الجريمة وحالات الانتحار تنتشر في المراكز الصناعية الكبرى، العمل وتقسيم العمل يفرضان انضباطًا صارمًا واتِّساقًا على حياة الناس لم يكونَا معروفَين في المجتمعات الأكثر بدائية، التقدم المادي يجرُّهم جرًّا، ويترك لهم خيارًا ضيِّقًا: «يتحركون لأنهم لا بد أن يتحركوا.»٦٦ وعلاج تلك الآثار المرضية للمجتمع الصناعي - في رأي دوركايم - ليس موجودًا في الفرد وإنما في الجماعة.
بينما دمَّر المجتمع الحديث أو أفسد الأسس القديمة للعمل الأخلاقي - الضوابط الأخلاقية، ضبط النفس، الدين - نجد أنَّ أُسُسًا جديدة قد حلَّت محلَّها على شكل تضامن اجتماعي - الأسرة البرجوازية، المؤسسة، اتحاد العمال، الدولة - كلها تشكِّل نظامًا صاعدًا من كيانات اجتماعية صنعها المجتمع الحديث، يمكن للأفراد أن يكتشفوا فيه صلةً عضوية بالآخرين، ويُشبعون احتياجاتهم ككائنات اجتماعية أكثر مما يشعرون بالوحدة والتخلي. كلمات مثل: الوحدة، التضامن، المجتمع، أصبحت رموزًا لآمال أشخاص؛ مثل «دوركايم» و«نوردو»، و«فيبر»، و«لومبروزو»، وغيرهم، ممن كانوا يعتقدون أنَّ تلك الفضائل الاجتماعية الجمعية يمكن أن تُرمِّم وتُعيدَ بناءَ ما كان المجتمع الصناعي يقوم بتدميره: وهو الإنسان نفسه.
كان «لومبروزو» يقول - وبحماس شديد - إنَّ الوحدة القومية الصحيحة يمكن أن تُزيل الفوارق الاقتصادية والانحلال والجريمة في كل إيطاليا، و«نوردو» كان يعتقد أنَّ التقدم الإنساني الأخلاقي الصحيح، كان يتحقَّق بنشر الشعور بالتضامن الاجتماعي على نطاق واسع، وفي النهاية فإن الإنسانية تكون «كیانًا جمعيًّا أنت خليَّة فيه … طاقاته الحيوية هي التي تُنتِجُك وتحافظ عليك حتى تموت، ارتفاعُه ورُقِيُّه يحملك معه إلى أعلى.»٦٧ كما أوضح «دوركايم» أنَّ الإحساس بالوحدة التي يحتاجها المجتمع لن يظهر فجأةً أو تلقائيًّا. الدولة لا بد أن تؤدِّيَ الوظيفةَ الموحَّدة للكيان الاجتماعي كلِّه، والذي يحاول تقسيمَ العمل أن يمزِّقَه، مقتبسًا «أوجست كونت» يستنتج «دوركايم» أنَّ الحكومة وحدها لديها القدرة على «التدخُّل المناسب في الإنجازات العادية لوظائف الاقتصاد الاجتماعي؛ لكي تُذكِّرَ باستمرار بمشاعر الوحدة والتضامن المشترك.»٦٨
الخوف من الانحلال، كان يغيِّر الآن أُفُقَ ليبرالية القرن التاسع عشر. لم يَعُد التقدم - بالمفهوم الاقتصادي والعلمي الكلاسيكي - كافيًا لتحقيق مجتمع آمن ومستقر. بمجيء عام ١٨٨٠م، كانت الليبرالية الكلاسيكية في أزمة - كما أوضح عددٌ كبير من المفكرين في ذلك الوقت - أصبحت مبادئها الفردانية التقليدية موضةً قديمة في أوروبا الغربية كلها، وظهرَت بدلًا منها سلسلةُ حركات أخرى تُحاول إنقاذ المجتمع الليبرالي، مستمدَّةً عناصرها من كلٍّ من العقائد السياسية الاشتراكية والمحافظة، وكانت تلك تتضمَّن ما يُسمَّى بالليبرالية الجديدة في أواخر العصر الفيكتوري في إنجلترا، و«اشتراكيو المقعد» في ألمانيا ولهلم، والحركة التقدمية في الولايات المتحدة.٦٩
كان الخوف من الانحلال أحدَ العوامل الحاسمة في هذه القناعات ما بعد الليبرالية، الافتراض بأن الحضارة الحديثة كانت في حالة ضعف نفسي أصبح بديهيةً عامة في العلوم الاجتماعية وعلم النفس الاجتماعي، كما كان الزعم بأن الجزء البدائي والمتخلِّف في الروح الإنسانية هو سبب الانهيار الذاتي للحداثة. في سنة ١٨٩٢م، كتبَت «بلاكوودز ماجازين»: «نحن نرى كيف يفصل بيننا وبين عوامل العنف التي تشكِّل أساسَ كلِّ المجتمعات المتحضِّرة حاجزٌ رقيق غير ثابت.»٧٠ الحضارة الليبرالية الحديثة كانت تبدو وكأنها تحكم على نفسها بالانقراض، ورغم أنَّ ليبراليَّ نهاية القرن ظلُّوا يقاومون نظريات «جوبينو» العرقية «الغاشمة»، أو عدمية «نيتشة» إلا أنهم كانوا قد أصبحوا مقتنعين بأن الوسيلة الوحيدة لتجنُّب أزمة، هي التوجُّه نحو حلول تكمل ليبرالية «دعه يعمل»، إن لم تكن تحلُّ محلَّها بالفعل.
اضف تعليق