أروقة الحضارة التي يُعتدّ بها، أي النموذج الغربي، قد أغلِق بإحكام في وجه الهمجيين. وهكذا تمّ الإبقاء على الفرق بين الحضارة والهمجية في شكل جديد؛ شكل يسلّم به معظم الأوروبيين. والسبيل الوحيد للقضاء على همجية الآخرين يتمثّل في إلغائه باسم الحضارة الأوروبية، وهي ملكيّة يمكن أن تكون فقط بحوزة الأوروبيين...
يبحث كتاب "الحضارة ومضامينُها" للباحث بروس مازليش في موضوع الحضارة الذي يستأثر باهتمام الدارسين على مختلف مشاربهم وتوجّهاتهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، منذ عقود، ولا يزال. ويهدف الكتاب إلى درء الخلافات الموجودة بين أفراد العالم باحترام خصوصية كل حضارة إنسانية (غربية، عربية/إسلامية، آسيوية)، وعدم المساس بقدراتها الثقافية والاجتماعية والدينية.
ولبلوغ هذا المطمح، يرى الكاتب بروس مازليش، وهو مؤرّخ بارز لمفهوم الحضارة، ومثقّف متمكّن من قضايا تهمّ الخصوصية الثقافية، أهمية العودة إلى تبنّي مفهوم "الكياسة" (civility) في تعاملاتنا عوضاً عن "الحضارة"، التي لها حمولة أيديولوجية غير بريئة في أحيانٍ كثيرة، فتتسبّب في خلافات بين الأمم نحن في غنىً عنها.
يتّفق الدارسون حول فكرة أن مفهوم "الحضارة"-مثله مثل المفاهيم الأخرى المتصلة به، كالأمّة، والثقافة، والكونيّة (الكوزموبوليتانية)- هو مفهوم اجتماعي (social construct). ولذا، يدعونا المؤلّف إلى إعادة التفكير في التطورات التي لحقت بمفهوم الحضارة عبر التاريخ من جرّاء الاختلافات الأيديولوجية والاجتماعية التاريخية؛ ليؤكد ضرورة سحب كلمة "حضارة" من السؤال العلمي، من دون أن ينفي استعمالها جملة وتفصيلاً في المادة العلمية. وهو يرمي من خلال هذه الخطوة إلى أن يُبدّل به أدوات تصوّرية تُسهم في فهم حقيقة الطبيعة البشرية الكونية ومتغيّراتها الإقليمية المحلية.
نشأة مفهوم الحضارة وأهميته
في الفصل الأول (أصول مفهوم الحضارة وأهميته)، يتناول مازليش موضوع كتابه، معتمداً مفكّرة تاريخانية تجول بنا في أصل مفهوم الحضارة وتطوّره. فبدأ بتجسيد الفرق الموجود بين المتحضّر (أي الذي يعيش حياة المدنية) والهمجي. وقد طرأ على هذا التقابل الثنائي تحوّل كبير أسهم فيه مفكّرو عصر الأنوار الأوروبيون خلال القرن الثامن عشر لتعميم قِيَم المركزية الأوروبية (Eurocentric) خلال مطلع عصر العولمة الحديث.
وهنا يشدّد المؤلّف على أن كلمة "حضارة" التي تمّ تجسيدها ونحتها أوّل الأمر من قِبل المفكّر والخطيب الفرنسي ميرابو في عام 1756، والفكرة التي تمثّلها، نشأت مع ظهور التفكير الغربي الحديث في الروابط التي أبقت على تماسك الشعوب أو تفتّتها. وبما أن وتيرة التغيّر المادي ارتفعت قبيل الثورتين الفرنسية والصناعية، فإن التفكير في أشكال ومراحل مختلفة من "العلاقات" التي تربط البشر فيما بينها، أو الحالات التي تُفرّقها، أصبح إلزامياً تقريباً.
ويضيف أنه بمجرّد أن يعي البشر بكون علاقاتهم مشكلة اجتماعية، على الرغم من أن ذلك غير مقصود في أغلب الأحوال، سيصبحون مطارَدين بشبح ذلك الوعي. ومن غير المفاجئ أن تكون الحضارة جزءاً من ذلك الهاجس الحديث، مع ما يصاحبه من عواقب بالغة الأهمية حول كيفية تصوّر البشر لأنفسهم وكيف يرتبطون بالآخرين.
الحضارة باعتبارها أيديولوجيا استعمارية
في الفصل الثاني (الحضارة باعتبارها أيديولوجيّة استعمارية)، يوضح مازليش كيف تحوّل الشعور الأوروبي في مطلع القرن الثامن عشر من مجرّد الاعتزاز بحضارته وفضائلها على البشرية إلى خطابات تتّسم بالشدّة والغطرسة، تؤكد التفوّق الأوروبي (superiority). ويوازي هذا التحوّل الأوروبي انتقالاً من أيديولوجيّة استعمارية معتدلة إلى حقبة استعمارية أكثر همجية ووحشية.
فوفق الكاتب، لقد أُقصِي الصينيون من المستوى المتقدّم باعتبارهم شعباً أصفر، وأصبح العِرق مثيراً ومحدّداً للحضارة، كما أصبح العلم أيديولوجيا مثله مثل مفهوم الحضارة نفسه. ولما كان الغرب يرى نفسه في مرآة الآخر، تمكّن من التفكير ملياً في نفسه وفي هويته، وكان تفكيراً حميداً على وجه العموم. ومع ذلك، وفي غضون عدة عقود، حدث تشويه لما كان يُرى في المرآة؛ واتخذ الآخر مظهر عِرق وضيع، يُدان بكونه نصف متحضّر، وعليه أن يخضع لسيطرة حضارة متفوّقة، أي الحضارة الأوروبية.
وفي موضع آخر، يلاحظ مازليش أنه قبل فترة طويلة من نحت مصطلح "حضارة"، كنّا نصادف تلميحات تفيد بأنها شكل من أشكال السيادة؛ ولعلّ تقسيم القرون الوسطى بين العالمين الإسلامي والمسيحي مثال شاهد على هذه الحالة.
كما شملت إحدى المحاولات المبكرة الساعية إلى تعريف أوروبا بنفسها، تقديم معتقد خاص بها(متصل بالجهة الأخرى من الحدود). والحدود النافذة نفسها لم تتوقّف عن التحوّل مع مرور الزمن؛ ويتمثّل ذلك التحوّل في الجهاد والهجوم المضاد (Reconquista). ومع ذلك، تتطلب المسيحية باعتبارها قوّة موحّدة في الغرب (على الرغم من انقسامها داخلياً)، الثبات والانفصال الكليّ عن الخصم الإسلامي عبر الحدود.
الحضارة باعتبارها أيديولوجيا أوروبية
في الفصل الثالث (الحضارة باعتبارها أيديولوجيا أوروبية)، يقدّم الكاتب حقائق تاريخية فكرية مهمة عن حالات التوتّر التي شهدها القرن التاسع عشر، بين تعريف شامل للحضارة الأوروبية، وتعريفات تقوم على العنصرية والإقصاء، ذات الأثر البالغ في السلوك الغربي.
ومن خلال الاطّلاع على كتابات فرانسوا غيزو (Francois Guizot) وتشارلز داروين (Charles Darwin)، وإدوارد غيبون (Edward Gibbon)، وكتّاب أوروبيين آخرين ذوي تأثير فكري شامل، يتوصل المؤلّف إلى الخلفيات التي أدّت إلى ميلاد موضوعات حضارية أوروبية رئيسة، من قبيل القِيم الخلقية، والعِرق، والدين، والمناخ، والنشوء. ولو أن الاقتناع الشامل المتعلق بفكرة الحضارة كان يتضمن إمكان أن يصبح الأفراد (أي الآخر، مثل العرب والآسيويين) أعضاء في الحضارة الأوروبية، أو أن يتبنّوها وأن يصبحوا فاعلين داخلها.
ويخلص مازليش إلى أن النتيجة الإجمالية لنوع العمل والتفكير اللذين تنخرط فيهما الشخصيات الثلاث الممثّلة (غيزو وداروين وغيبون) كانت تحويل الأيديولوجيا الاستعمارية الحميدة لرجال مثل القبطان كوك وفورستير وماكارتني، بشكل متزايد إلى أيديولوجيا تفوّق أوروبي سامٍ قائم على جوهر ثابت: الجنس.
ومن ثمّ، فإن أروقة الحضارة، أو على الأقل أروقة الحضارة التي يُعتدّ بها، أي النموذج الغربي، قد أغلِق بإحكام في وجه الهمجيين. وهكذا تمّ الإبقاء على الفرق بين الحضارة والهمجية في شكل جديد؛ شكل يسلّم به معظم الأوروبيين. والسبيل الوحيد للقضاء على همجية "الآخرين" يتمثّل في إلغائه باسم الحضارة الأوروبية، وهي ملكيّة يمكن أن تكون فقط بحوزة الأوروبيين.
العملية التحضريّة
في الفصل الرابع (العملية التحضريّة)، يناقش مازليش الثقافة الأوروبية من خلال مفكّرين كبار مثل جون ستيوارت ميل وسيغموند فرويد ونوربيرت إلياس الذين شكّلوا أفكاراً جريئة وصريحة عن الجوانب السلبية للحضارة الأوروبية، محاولين الابتعاد عن الاتجاه الانتصاري الكلاسيكي الذي لا ينقطع عن تمجيدها.
ومن منظور تاريخي شامل، يواصل الكاتب مناقشته أفكاراً أخرى لمجموعة من النقّاد والرومانسيين الأوروبيين، خاصة أولئك الذين وصفهم ستيفان هاي بالرومانسيين الذين لهم ميول نحو الثقافة الآسيوية ولهم رسالة تدعو إلى النهضة الشرقية.
وعموماً، يُعدّ هؤلاء المفكّرون الثلاثة (ميل وفرويد وإلياس) ممثّلين لتحوّل في خطاب الحضارة داخل أوروبا ذاتها. ففي البداية، أي في عصرهم، كان صوتهم يمثّل الأقلية. وكان يُنظر إلى الحضارة، حتى بين المثقفين، فضلاً عن "الجماهير"، على أن كلّها خيرٌ لا يرقى إليه الشك، وإنجاز أوروبي. ولم تعلُ أصوات السخط إلا مع مرور الوقت، حيث قوّاها الشر المدوّي للحرب العالمية الأولى، الذي أفرز دليلاً آخر عن إمكانات التراجع عن الحضارة المتأصلة في النسخة الأوروبية. ومع ذلك، يجب ألّا تحجب عنّا هذه التحديات حقيقة أن الحضارة، في حدّ ذاتها وأشكالها المتنوعة، هي التي لا تزال تشكّل ساحة المعركة حيث اصطدام الآراء المتباينة.
حضارات أخرى
في الفصل الخامس (حضارات أخرى)، يتناول مازليش نظرة المصريين والصينيين والطاويين لمفهوم الحضارة، من دون أن ينسى التطرّق إلى التحوّل الهائل الذي لحق بخطاب الحضارة، من كونه أيديولوجية الاستعمار الهمجي إلى كونه أداة فكرية للقومية المناهضة للاستعمار تعتمد خطاب الشرق الروحي والقيمي مسلّماً لها في مقابل خطاب الغرب المادي المنهار.
وقد كان على مجتمعات غير غربية التعامل مع سؤال الحضارة، سواء باعتباره تصوّراً جديداً عن ماضيها، أو مطمحاً إلى مستقبل ما. ومن ثمّ، فالصينيون يرون أنفسهم شعباً يقطن "المملكة الوسطى"، ويتحدث الرومان عن باكس رومانيا (السلام الروماني)؛ ويفكّر العرب بقيادة ابن خلدون، انطلاقاً من الفرق بين البدو وأهل المدينة.
ومن وجهة نظر الكاتب الراهنة، يمكن إدراك هذه الصيغ إلى حد ما باعتبارها مرادفات لمصطلح "حضارة". لكن لا ينبغي لهذا الإدراك أن يحجب الفرق الآتي: كون "الحضارة" باعتبارها مصطلحاً مجسّداً قد ظهر في القرن الثامن عشر في الغرب، ولم يتم تطبيقه بأثر رجعي على "حضارات" أخرى إلّا لاحقاً.
حوار الحضارات في عصر عالمي
في الفصل السادس (حوار الحضارات في عصر عالمي)، يتحدث مازليش عن محاولات حصلت حول الحوار بين الحضارات بدعم من اليونسكو، مع إشارته إلى أن الصراعات الراهنة تمتد إلى داخل الحضارات، وليس بين الحضارات المختلفة.
ولا يستبعد الكاتب إمكان التوصل إلى حوار حضاري بنّاء، على الرغم من أن المغزى الحميد والمثالي "لحوار الحضارات" يقوم على مفهوم عتيق ومهجور للحضارة؛ فهو يشدّد على أن تتوافق جهود هذا الحوار مع حقيقة مفادها أن هناك الآن حضارة كونيّة واحدة، تساعد في حدّ ذاتها على تأسيس أرضية إيجابية للحوار ولا تقف عائقاً في وجهه.
وإذا ما اطّلع القارئ على المقالات التي قُدّمت في ندوات ومؤتمرات دولية حول حوار الحضارات بتنظيم اليونيسكو- وهي لا حصر لها- فسيتّفق مع مازليش حول فكرة أن هذه الندوات والمؤتمرات لم تتمكّن إلى حدّ الآن من أن تقدّم معنىً واضحاً لمفهوم الحضارات.
استنتاجات
أخيراً، وفي الفصل السابع (استنتاجات)، ينبّه مازليش إلى أنه قد حان الوقت لتجاوز مفهومي "الحضارة" و"الثقافة"، وتبنّي مفهوم "الكياسة" (civility) المرتبط بقِيم عالية تقوم على محاسبة النفس والنقد الذاتي، على الرغم من الاستعمالات المتعددة لمصطلح "حضارة" في مجالات متنوعة، وعلى الرغم من القيمة الفكرية التي يتمتع بها نموذج "الحضارة الكونية-الثقافات المحلية". ومن ثم يسهل علينا التأثير في الاتجاه الذي تسير فيه الحضارة الكونية، فنجعلها أكثر شمولية وإنسانية حتى لا تتكرّر الخلافات والتقسيمات المأساوية (حضارة، عِرق، دين، إثنيّة)، غير المبرّرة التي خلّفتها عولمة نهاية القرن التاسع عشر.
إن هذا الكتاب - بحق- يُعدّ مساهمة إضافية وقيّمة في مجال البحث العلمي الذي يهتم بدراسة مفهوم الحضارة دراسة متأنيّة ورصينة، وبعيدة عن العنصرية والتقوقع حول الذات؛ وهو كُتِب بأسلوب متعدد الاختصاصات: تاريخي وفلسفي وعلمي وأدبي.
اضف تعليق