الرصانة العلمية مطلوبة في الكتاب الجامعي؛ لكن معرفة متطلبات العصر مطلوبة أيضاً، وثقافته وأدواته التكنولوجية، وثقافة المتلقي ومزاجه ورغباته واتجاهاته، وألوان الطيف العلمي المتغيّر. ومع الأسف، بقي الكتاب الجامعي العربي مُقيَّداً بتفعيلات الماضي وقيوده وشروطه ونمطيَّته؛ بينما الكتاب الأجنبي غادرته الكثيرُ من الجامعات لصالح الكتاب الإلكتروني...
أزمات الجامعات العربية كثيرة، وتحدياتها متنوعة، وخرائط التعليم غير واضحة الألوان، ونظمها التعليمية تُعاني من عقمٍ جيني في هندسة المستقبل، وتراكمات زمنية ترسَّبت في وعاء التعليم ونُظُمه وآلياتِه؛ فأنتجت مخرجات تقليدية لا تتناسب مع سيلكون العصر، وعصر الذكاء الاصطناعي.
ما زالت الجامعات تتهجَّى العلم على طريقة (كتاتيب) أيام زمان، وما يزال عقل خرِّيجيها مليئاً بمفاسد وسلبيات المفاهيم النظرية الكثيرة، والمطلقات العامة البليدة البعيدة عن رادار العقل الواعي، والإلهام الإبداعي.
أزمةٌ تِلوَ أزمة؛ وأزمة تلِد أزمة! إنه نظام تعليمي مُهترئ بالأساليب التقليدية، والنهج الاستبدادي للتدريس، وأزمة في تحسين جودة التعليم العالي، وفي البيئات الجامعية الملوثة بالقمع والاستغلال، وكلها تؤدي إلى خلق معرفة مشلولة، ونقصٍ في بروتين العلم.
والكتاب الجامعي، أحد مشكلات الجامعات العربية، فهو كتابٌ يلغي، في الكثير من الأحيان، التفكيرَ والتحليلَ العقلي، ويُزود الطالب بمعلومات تقليدية ونمطية لا تُلبِّي متطلبات تحولات الثورة المعلوماتية والتكنولوجية.
فليس غريباً إذن أن تحتوي الكثير منها على معارف فترة الأربعينيات والخمسينيات، وتمتلئ بالمصادر القديمة التي تم إلغاؤها بتقادم الزمن، وأصبحت جزءاً من الأرشيف؛ لتبتلعها التكنولوجيا الحديثة.
كتاب هشٌّ ملئٌ بالمعلومات؛ لكنه لا يسمح للطالب أن يُطلَّ على نافذة العلم الجديد والمعرفة بتنوعاتها واتجاهاتها ومُستجدَّاتها.
ولا يفتح المجال له لتوسيع دائرة البحث والتقَصِّي والاستكشاف، ويصنع منه باحثاً ومفكراً قادراً على الفهم والتحليل والتركيب والاستشراف والإبداع والابتكار.
ما تزال الجامعات تعتمد على الكتاب الورقي، المهووس بحبر المطابع؛ لكنه يُعاني من انتهاك حقوق الملكية الفكرية، واستغلال أصحاب دور النشر، وألاعيب التصوير والتحديث المضلّل، وأسعارها العالية، مثلما يعاني من سوق تجارة البيع والشراء من قِبَل الأساتذة؛ بينما الكتاب الإلكتروني لا يزال ضعيفاً وخجولاً، رغم ميزته العالية في توفير المخططات التفصيلية ومقاطع الفيديو والرسوم التوضيحية المتحركة، كما أن سعره مناسب، مقارنة بالنسخ المطبوعة، خاصة في الكليات العلمية التطبيقية.
لكن التحدي لا يزال قائماً وقوياً بخصوص: ضعف الجاهزية الرقمية، والبِنى التحتية، والحواسيب، وانتشار الإنترنت والاتصال في معظم الدول العربية، والتعامل مع الوسائط المتعددة والرسوم المتحركة، وعدم التعوُّد على استخدام أجهزة القراءة الإلكترونية.
ما يزال الكتاب الإلكتروني العربي هو مجرد نسخ رقمية من الكتب المطبوعة لا تتضمن ميزات تفاعلية تشجع على التلقِّي والتأثير.
وتظل أزمة ومشكلة الكتاب الجامعي شاهداً على تبلُّدِ العقول، بداية من المحتوى المكدس، وأسعاره العالية، خاصة في الكليات العملية، وبين لغته العلمية الجامدة المولِّدة لنفور الشباب الجامعي المهووس بلغة الدهشة والاختصار وصور الإثارة.
ما تزال اللغة العلمية في الكتاب الجامعي تتأطر بمفهوم القوالب الجاهزة، التي لم تتحرر من تقليدية النمط السردي الثقيل بالتنظيرات والحشو النظري، وبأسلوب لا يخلو من الرتابة السردية المفقودة للحياة، وشهيّة جاذبية القراءة.
ليس هناك تعارض بين فكرة الرصانة العلمية وبين أسلوب الكتابة العصرية المليئة بالصور والأمثلة والتجارب، مادامت الفكرة العلمية تصل إلى المتلقي بسهولة ويسر عقلي، ويتفاعل معها المتلقي بوعي مبتكر.
شخصياً، لم يستهوِني تأليف الكتب المنهجية، وقد خُضتُ تجربتها في عشرات الكتب، وأعترف بأنها كانت خارج طموحاتي؛ لأنها كانت خاضعة لاشتراطات علمية مقوْلبة، وقوانين ثابتة لا تتغير، وتقاليد مأخوذة من ثقافة الماضي وتقاليده العلمية المُثقلة بمزاج المؤسسة العلمية وتعاليمها الصارمة. فقد كانت الكتب المنهجية تسير على منهجية واحدة في أسلوب التأليف دون أن تتجدد أساليبها ومضامينها، رغم تقادم الأزمان، وتغيُّرِ أمزجة البشر.
نعم، الرصانة العلمية مطلوبة في الكتاب الجامعي؛ لكن معرفة متطلبات العصر مطلوبة أيضاً، وثقافته وأدواته التكنولوجية، وثقافة المتلقي ومزاجه ورغباته واتجاهاته، وألوان الطيف العلمي المتغيّر. ومع الأسف، بقي الكتاب الجامعي العربي مُقيَّداً بتفعيلات الماضي وقيوده وشروطه ونمطيَّته؛ بينما الكتاب الأجنبي غادرته الكثيرُ من الجامعات لصالح الكتاب الإلكتروني، ومكتبات المعرفة الرقمية، فلبِس رداء العصر، واجتاز عقدة الماضي وأسلوبه؛ صار أرسطو يتحدث عبر السيلكون، وآينشتاين يلعب مع الطلبة الألعاب الإلكترونية.
قبل أيام أثارني وأذهلني كتاب (علم النفس الاجتماعي – دراسة لخفايا الإنسان والقوى الاجتماعية) للدكتور فجر جودة النعيمي، أحد أساتذة علم الاجتماع في جامعة بغداد سابقاً، والمقيم حالياً في بريطانيا، وهو من الجيل المطوِّر في أساليب الكتابة العلمية المعاصرة؛ حيث معظم كتُبِه لا تتقيَّد بنمطيَّة الكتابة التقليدية، فهو يجنح عادة إلى أسلوب السرد الصوري المُشوِّق، المليء بالمحتوى والأمثلة والمناقشات المفتوحة التي تجذب المتلقِّي وتستفزُّ مداركَه.
هناك كتب كثيرة في علم النفس الاجتماعي، معظمها طبق الأصل في المحتوى والأسلوب والمراجع، فيكفي قراءة القارئ لكتابٍ واحد؛ فيعوضه ذلك عن قراءة جميع الكتب في هذا المجال، لكن كتاب النعيمي تشعر وأنت تتصفحه أنك تتجول في عوالمَ جديدةٍ من الأفكار والرؤى والانطباعات؛ بل ويُشوِّقك لقراءة ما بين سطور العلم وتعقيداته وأسراره، من خلال لغة قريبة إلى العقل، ومدارك المعرفة. يقول: (الإنسان كائن جبار وغريب. في جسده نهرٌ أطول من نهر دجلة بستمائة ضعف، ينساب بمضخة أكبر بقليل من علبة كبريت، وتتحرك في وجهه 62 عضلة عندما يتجهَّم، وأقل من نصفها عندما يبتسم وهو لذلك لا يبتسم إلا نادراً!! –ص15).
والكتاب في فصوله التسعة (النظريات والبحث، الثقافة والتنشئة الاجتماعية، السببية والمعرفة الاجتماعية، الاتجاهات، تغيير الاتجاهات، الجماعة والقيادة، السلوك العدواني، السلوك الاجتماعي، اللغة واللغة الصامتة)، لا يُقدم جديداً على مستوى (عناوين الموضوعات)؛ فهي أجندة ثابتة -إلى حدٍّ كبير- في علم النفس الاجتماعي، لكن معالجة الموضوعات بالتحليل والاستقراء المقرونة بالأمثلة والتجارب والخلاصات العميقة، وحضور شخصية الباحث في التفسير والنقد والتقويم، وشجاعة الرأي العلمي، ولغة الكتاب وجاذبيتها؛ هو الذي يُميز الكتاب، ويجعله صالحاً ككتاب منهجي، ويُلهم تفكير الطالب، ويُثري الباحثَ بالمعلومات، ويستفز عقلَ القارئ.
خلاصة الخلاصات؛ الكتاب يفتح لنا فكرة إنعاش الكتاب الجامعي الذي ما يزال يرقد على سرير الموت في ردهات الجامعات؛ حيث يَئِن من وجع الرتابة، وجمود الفكرة العلمية، واستبداد الأفكار النمطية. وتبقى الأسئلة عن الجامعة والكتاب ولغته وأسلوبه والمنهج، حاضرة في موضوع التغيير والتطوير؛ لأن أهم شيء، برأي (ألبرت أينشتاين)، ألا تتوقف عن السؤال، وأن يكون انشغالك في الماضي هو المستقبل.
اضف تعليق