رأى دو توكفيل في العالم الجديد (أميركا) تجسيدًا للثورة الحقيقية الحتمية، التي تؤسّس من دون عنف لرفاه الإنسان وازدهار مجتمعاته. كان توكفيل يرى أن الانتقال من الأرستقراطية إلى الديمقراطية لا يحتّم المرور بثورات دموية، على غرار ما شهدته فرنسا ومعظم الملكيّات الأوروبية. لكنه لا ينطلق في انكبابه على...
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة "ترجمان"، كتاب الديمقراطية في أميركا De la démocratie en Amérique، من تأليف كاتب فرنسي عرّفه شارل دانتزيغ يومًا بأنه "متأدّب من الصفّ الأول، يؤمن بالموسّسات، ويسعى في خدمتها أفضل ممّا يسعى لهذا الغرض شاتوبريان الذي لا يخدم إلا نفسه"، إنه ألكسي دو توكفيل، المؤرخ والمنظر السياسي الفرنسي الذي اهتم بالسياسة في بعدها التاريخي، وكان يرى أن الثورة الفرنسية فشلت في تطوير الدولة الفرنسية التي أسسها الملك لويس الرابع عشر بسبب قلة خبرة النواب الذين كانوا ملتزمين بمُثُل عصر التنوير غير العملية، كما كان من أشد المدافعين عن نظام الحكم البرلماني، وعلى الرغم من ذلك كان يبدي تخوفًا من الديمقراطية المفتوحة.
أيّد دو توكفيل في مرحلة من حياته السياسية الوسط اليساري، وتأثر بعدها كثيرًا بفكرة "المساواة" في المجتمعات الغربية، وبدا هذا التأثر واضحًا في الكتاب الذي بين أيدينا، كما كان ممثلًا رفيع المستوى للتقليد السياسي الليبرالي. ترجم الديمقراطية في أميركا إلى العربية بسام حجار، ويقع في 1088 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
يتألف مجلد كتاب الديمقراطية في أميركا من جزأين، يشتمل الجزء الأول منهما على قسمين، يضم الأول ثمانية فصول، والثاني عشرة فصول (فالمجموع ثمانية عشر فصلًا)، أما الجزء الثاني فيشتمل على أربعة أقسام، يضم الأول منها واحدًا وعشرين فصلًا، والثاني عشرين فصلًا، والثالث ستة وعشرين فصلًا، والرابع ثمانية فصول (فالمجموع خمسة وسبعون فصلًا). بناء عليه، يكون مجموع فصول الكتاب ثلاثة وتسعين فصلًا، وكفى بهذا العدد من الفصول شاهدًا على عظمة الجهد المبذول في هذا السِّفر الذي خلّفه دو توكفيل للأجيال من بعده. ونحن إذ نَذَرُ القارئَ يخوض الكتاب قراءةً ومتعةً ليستكشف مضامين الفصول، نستعرض فكر دو توكفيل حول مادة الكتاب.
الغرض من تأليف هذا السِّفْر العظيم
قبل كتاب دو توكفيل ذكريات (كُتبت بين 1850 و1851 ونُشرت بعد وفاته)، خصص المؤرخ الفرنسي لمؤلَّفه الديمقراطية في أميركا ما يقارب الألف صفحة لوصف الأمّة التي خلّفت بالمقدار الأقلّ من الدماء ما لم تتمكّن أوروبا من أن تخلّفه بالثورات العنيفة. فرحلةٌ إلى أميركا لأقل من عام بين 1831 و1832 لغرَض الاطلاع على أوضاع السجون فيها جعلته يُبدِع مؤلّفًا خالدًا، لم يخلُ كتابٌ جديّ في العلوم السياسية أو الفلسفة أو الاجتماعيات بعده من الاستناد إلى تحليلاته أو افتراضاته.
رأى دو توكفيل في العالم الجديد (أميركا) تجسيدًا للثورة الحقيقية الحتمية، التي تؤسّس من دون عنف لرفاه الإنسان وازدهار مجتمعاته. كان توكفيل يرى أن الانتقال من الأرستقراطية إلى الديمقراطية لا يحتّم المرور بثورات دموية، على غرار ما شهدته فرنسا ومعظم الملكيّات الأوروبية. لكنه لا ينطلق في انكبابه على حال الديمقراطية في أميركا من إعجاب منزّه عن النقد، فإذا تجسّدت الديمقراطية في المساواة وتكافؤ المراتب والفرص، فما الذي يضمن إن لم تُدعَّم بشرط الحرية أنها لن تستحيل طغيانًا؟ كان توكفيل يؤمن بأن امتداح الفضائل لا يصون الشرائع من نزوع إلى طغيان يُزيَّن بلبوس الاستقامة. وقد بيّن هذا المعنى في قوله: "ويخطئ كثيرًا من يحسب أن غرضي من الكتاب هو امتداح أميركا، فمن قرأ الكتاب أدرك أن المديح ليس من بين أغراضه".
خاض توكفيل مغامرة فكرية بتأليف الديمقراطية في أميركا، يلخصها ما جاء في رسالة إلى صديقه كيرغورلاي يقول فيها: "عقدت العزم على تأليف هذا الكتاب بعد تفكير طويل، فبعض ما فيه لن يكون سارًّا لبعض الناس، وسوف يرى بعضهم أنني أمقت الديمقراطية وبالغُ القسوة في انتقادها، بينما قد يراني آخرون متحمّسًا بغلوّ لانتشارها، ولعلّ أحسن ما قد ألقاه امتناع الناس عن قراءة كتابي، ولكني منذ عشرة أعوام أفكّر في أمور لأجلها قصدت أميركا وليس لاستيضاح حقيقة السجون، فهذا لم يكن سوى ذريعة، وكان هدفي الوقوف على حقيقة هذا البلد، الذي طالعتني فيه أمور لم أتوقّعها، وكانت بالنسبة إلي أسئلة لطالما طرحتها على نفسي".
هذه "المغامرة" لخصها أيضًا فرنسوا فوريه بالسطور الآتية: "لقد استغرق تدوين الرحلة الأكثر نباهةً في القرن التاسع عشر نحو عشرة أعوام من العمل الفكري الدؤوب الذي يستطيع القارئ العثور على أفكاره الناظمة في مادة هذا الكتاب وفي الملاحظات التي دُوّنت على هامش الرحلة [ونشرت لاحقًا]: وفي هذا دليل على كون الرحّالة قد حلّ في تلك الأرض مزوّدًا بـ ’نظامه‘ الفكريّ المنجز، أما استغراقه كلّ هذا الوقت فكان رغبةً في قراءات مطوّلة في مجال القانون الدستوري والمجالين السياسي والقضائي، وفي ’التفكير مليًّا‘ في ’الوقائع‘ الأميركية".
"المساواة" ومكانتها في فكر دو توكفيل
وُضِع هذا المؤلَّف تحت إلحاح فكرة الانتشار الوشيك والكوني والذي لا يُردّ للديمقراطية في العالم، وفي كل صفحة من صفحاته تقريبًا إشارة إلى تغييرها شكلَ المجتمعات، كما ورد في عباراته هذه (بتصرف): "إن تنامي المساواة هو صنيع العناية الإلهية، وسماته أنه كوني، مستدام ويتجاوز قدرة البشر كل يوم، فهل من الحكمة الظنّ أن حراكًا اجتماعيًّا بهذا البعد يتعلق بإرادة جيل؟ وهل يجوز أن تنكفئ الديمقراطية أمام البرجوازية والموسرين بعدما دمّرت الإقطاع وهزمت الملوك؟".
إن رجلًا دوّن هذه السطور ليسمح لنا اليوم بلفت أنظار الجمهور مجددًا إلى كتابه والتنويه بأن الظروف الحالية تضفي عليه أهمية زائدة وفائدة عملية لم تكن متوافرة لحظة صدوره الأولى، فاليوم لا مَلَكية قائمة، ومؤسسات أميركا التي كانت في نظر فرنسا الملكية طرائف مثيرة للفضول هي اليوم موضوع دراسة وتمحيص في فرنسا الجمهورية، وإذا كان خيار الفرنسيين بين المَلَكية والجمهورية قد حُسم، فما الجمهورية التي سيحظون بها، أجمهورية مضطربة أم جمهورية مستقرّة؟ نظامية أم غير نظامية؟ مسالمة أم محاربة؟ تحرّرية أم قامعة؟ تهدّد حقَّيْ المِلكية والعائلة المقدّسَين أم جمهورية تقرّبهما وتكرّسهما؟ إن حل هذه المعضلات لا يعني الفرنسيين وحدهم، بل يعني العالم المتمدّن بأسره.
تمكّنت أميركا من حل هذه المعضلة قبل مدة طويلة، وطبّقت مبدأ سيادة الشعب [الأميركي] بلا منازع، وهذا الشعب لا يني يتعاظم عددًا، ويتوسّع نطاقًا، ويزداد ثروةً، ويتنعّم بقدر وافر من البحبوحة والاستقرار، بينما كانت أمم أوروبا تعاني ويلات الحرب وتمزقها النزاعات الأهلية والثورات التي قوّضت استقرارها، كما كانت الملكية الفردية في أميركا تحظى بضمانات لم يوفّرها بلد آخر، وبذلك بقيت بمنأى عن الفوضى والاستبداد.
يقول دو توكفيل إن ما استرعى انتباهه في أميركا هو تساوي المراتب، وإنه اكتشف ما لهذا التساوي من تأثير مذهل في توازن المجتمع يتعدى القوانين؛ ما جعله ينتقل بتفكيره إلى النصف المقابل من الأرض متمنّيًا له شيئًا مماثلًا. كما بدا للمؤلف أن مثيلة الديمقراطية الأميركية تتقدّم في أوروبا بوتيرة أسرع، على الرغم من اختلاف نظرة الناس إليها، بين من يحدوه أمل في صدّها ومن يراها الأكثر دوامًا وأمرًا لا يردّ، وأن هذا ما جعل فكرة الكتاب تختمر في رأسه.
كانت فرنسا موزّعةً على أسَر قليلة تمتلك الأرض وتحكم قاطنيها بالميراث، أما بشرها فلم تكن بين أيديهم وسيلة للتعامل سوى القوة التي لم تكن سوى في مصدر واحد: الملكية العقارية. طبقة ثالثة لم تلبث أن نشأت وتوسعت هي سلطة الإكليروس التي فتحت أبوابها للجميع: الفقير والموسر، والعاميّ والسيّد. وتبدأ المساواة بالتسلّل إلى الحكومة عبر الكنيسة، إذ ينتزع رجل الدين لنفسه، بعد أن عاش في عبودية، مكانةً في مجالس النبلاء، وبناء عليه فقد بات المجتمع بمرور الزمن أكثر تمدّنًا واستقرارًا، وطرأت لتنظيم الصلات الآخذة في التعقّد بين البشر ضرورةٌ لقوانين مدنية فظهرت طبقة المشترعين.
ومع بذخ الملوك تفرغ الخزائن، فتتجه العامّة إلى طريق التجارة وتظهر طبقة التجار، ومعهم ظاهرة سطوة المال سبيلًا إلى النفوذ والتأثير في شؤون الدولة، ويصبح المتموّلون قوةً يُغدق عليها المديح. وتنتشر العلوم شيئًا فشيئًا فتظهر طبقة المتعلمين، ويغدو العقل وسيلة حكم، والذكاء قوة اجتماعية ويخوض المتعلّمون مجال الأعمال.
وفي الخلاصة، فإن المساواة النسبية على مر الزمن كانت لأسباب، فقد كانت النبالة لا تقدَّر بثمن حتى أخذت تُشرى، ثم مُنحت بلقب، إلى أن تسلّلت المساواة إلى أروقة الحكم ومنح النبلاءُ الشعبَ سلطةً إما للتصدّي لتسلّط الملك أو لانتزاع السلطة من أيدي منافسيهم. وشهدنا ملوكًا يشركون الطبقات الدنيا في الحكم لغرض التقليل من شأن الأرستقراطية. وفي فرنسا، رفع الملوكُ الأقوياء الشعبَ إلى مرتبة النبلاء، والملوك المعتدلون والضعفاء أعطوه نفوذًا وقوة فوق نفوذهم.
ومنذ تشريع امتلاك المواطنين الأرض خلافًا للعُرف الإقطاعي، لم يكن يتم اكتشافٌ في العلوم أو التجارة أو الصناعة من دون أن يضيف عناصر مساواة جديدة بين الناس. ومذّاك غدت كل الحاجات الإنسانية خطوات للتقدّم في اتجاه التساوي وإفقار الأثرياء وإثراء الفقراء، ثم تكفلت الحروب الصليبيّة وحروب الإنكليز باستئصال النبلاء وتقسيم أراضيهم، وإذا بالكومونات تؤسّس للحرية الديمقراطية في قلبِ المَلَكية الإقطاعية، وبالأسلحة النارية تساوي بين الفلّاح والنبيل في المعركة، وبالمطبعة توفّر موارد متكافئة لصقلِ ذكائهما، وبالبريد يودعُ المعرفة عند عتبة الكوخ وبوابة القصر، وبالمذهب البروتستانتي يزعم أن الناس جميعًا سواسية.
وبدءًا بالقرن الحادي عشر، درج المجتمع الفرنسي وكل المجتمعات المسيحية كل خمسين عامًا على ثورة مزدوجة، تُخفض النبيل في مراتب السلّم الاجتماعي وترقّي العامي درجات، وباتت الديمقراطية حيثما وجهنا أنظارنا تشهد انقلابًا لمصلحتها من الجميع: من قُتل في سبيلها أو من جاهر بعداوتها.
تساؤل عن مآل المسيحيين وتفاؤل
ويتساءل دو توكفيل عن مآل المسيحيين في المستقبل بعد ما تحقق، ليجيب بأن لا أحد يدري يقينًا، وفي رأيه أن عظمة ما تحقق تحجب رؤية ما يمكن أن يتحقق بعد، ويُبدي هلعه من حال شعوب اليوم المسيحية؛ إذ إن حراكها نحو القوّة بات مستحيلًا وقفُه من خارج، ولم يبلغ من التسارع حدًّا يستحيل معه وقْفُه إراديًّا. وبناء عليه، فإن مصيرها لا يزال في متناولها ولكن ليس لوقت طويل في رأيه، وأن الواجبات الأولى المترتّبة اليوم على من يتولون قيادة مجتمعاتها هي تهذيب الديمقراطية وإحياء معتقداتها، وضبط حركاتها، واستبدال غرائزها العمياء بالمصالح المعبّرة عنها.
ويرى دو توكفيل أن التقدم الذي أحدثته الثورة الاجتماعية المذكورة في أوروبا كان الأسرع في فرنسا، غير أنه كان عشوائيًّا، وتُركت الديمقراطية لغرائزها الفطرية فتولت السلطة على نحوٍ مباغت ورضخ كل منا لنزواتها وعبدناها صورةً للقوّة. وحينما وهَنَت بعد حين، صاغَ المشترعون خطّةً حصيفة لتقويضها وإزاحتها عن سدّة الحكم عوضَ السعي وراء تهذيبها وتصويبها، وما ذلك إلا لأنهم امتلكوا الديمقراطية مجرّدةً مما يساهم في تلطيف رذائلها.
ويبيّن دو توكفيل تصوره للمجتمع الذي يطمح إليه، وهو مجتمع يرى الفرد فيه أن القانونَ صنيعُه، يستحسن أحكامه ويرضخ له دونما مشقّة، وإذ يمتلك حقوقًا ويطمئن إلى احتفاظه بها من دون منازع تنشأ ثقةٌ متينة بين الطبقات قاطبةً، وتسامح متبادل مجرّد من الغرور أو الوضاعة، عندئذ تحلّ المشاركة الطوعية للمواطنين محل النفوذ الفردي للنبلاء، وتغدو الدولة بمنأى عن الطغيان، وفي مجتمعها مقدار أقل من البؤس، والرخاء فيه أعمّ وأشمل من الكدر، والجهالة أندر من العلوم، والمشاعر أقل احتدامًا، والعادات ألطف، والجرائم أقل شيوعًا من الرذائل. ولأن كل إنسان مساوٍ للآخر بضعفه، سيشعر بحاجة مساوية إلى أمثاله، وأن مصلحته الخاصة مقترنة بمصالح العامة.
فالديمقراطية في رأي دو توكفيل تدمر الكيانات الفردية التي كانت، كلّ على حدة، تكافح الطغيان، لكن الحكومة ترث وحدها جميع الامتيازات وتصبح القوة القاهرة.
وبالنسبة إلى الأوساط الفكرية، يرى دو توكفيل أن الديمقراطية الفرنسية المتعثّرة أطاحت كل ما كان يعترضها، ولم تكفّ عن السير قُدُمًا، ومن هنا تنبع حال ارتباك يشهدها المجتمع الفرنسي مرغمًا، إذ يبدو أنه قطع الرابط الطبيعي الذي يقرن الآراء بالميول والأعمال بالقناعات. حتى الدين في رأيه بات منخرطًا في نصرة القوى التي تُسقطها الديمقراطية، ويتنكّر للمساواة ويضنّ بها، ويلعن الحرية كأنه خصم لها. وإلى جانب الدين أناس أبصارهم مشدودة إلى نصرة الحرية، ليس بوصفها مصدرًا لأنبل الفضائل بل لأجزى الخيرات أيضًا، ويرى أنهم يسارعون إلى الاستعانة بالدين لأجل هذه الخيرات.
وفي حين شهدت العصور السالفة نفوسًا وضيعةً تنادي بالعبودية، وأخرى حرّة تكافح لصون الحرية، يقول دو توكفيل إن أيامنا زاخرة بأناس نبلاء بالفطرة لكنّ آراءهم تتعارض مع ميولهم فيمتدحون الخنوع والوضاعة، وأناسٍ يستشرفون ما تنطوي عليه الحرية من عظمة لكنهم يناصرون حقوقًا طالما أساؤوا فهمها، وأناسٍ فاضلين تؤهّلهم تقاليدهم الطاهرة لتولّي قيادَ محيطهم لكنهم يجعلون أنفسهم من ألدّ أعداء الحضارة، وأناسٍ ادّعوا أنهم روّاد الحضارة الحديثة لكنهم يستميتون في جعل الإنسان ماديًّا، ويسعون للنافع ويغفلون عن الصائب، ويطلبون العلم بمعزل عن المعتقدات، والرخاء مجرّدًا من الفضيلة.
يطرح دو توكفيل أخيرًا تساؤلاته الحائرة: "أين نقف؟ هل العصور كلها كانت شبيهةً بعصرنا؟ أغالبًا شهد الإنسانُ عالمًا لا ترابط فيه، وفضيلة مجرّدة من النباهة، ونباهة مجرّدة من الاعتزاز، وهوى للنظام مطابقًا لميل الطغاة، ونزوعًا سليمًا إلى الحرية مطابقًا لازدراء القوانين، وضميرًا لا ينير بل يظلّل أعمال البشر؟ هل خلق الخالق الإنسان كي يدعه متخبّطًا وسط البؤس الفكريّ؟".
ثم يجيب نفسه: "لا، لا يسعني أن أصدّق: فيقيني أن الله يدبّر للمجتمعات الأوروبية مستقبلًا أكثر ثباتًا واستقرارًا. ولن أكف عن الإيمان بتدابير مشيئته، وأُؤثر ألف مرّة الشك في علمي على الشك في عدالته. ويتراءى لي من دون أدنى شك أننا، عاجلًا أم آجلًا، سنبلغ المساواة شبه التامّة في المراتب على غرار الأميركيين، رغم أني بعيد عن الاعتقاد بأنهم اهتدوا إلى شكل الحكومة الوحيدة الذي قد توفّره الديمقراطية لنفسها.
لم يكن انصرافي إلى درسِ أميركا إشباعًا لفضول، بل العثور على دروس مفيدة لنا، كما لم تكن غايتي الدعوة إلى هذا الشكل أو ذاك من أشكال الحكم، فأنا ممن يومنون بأن لا وجود لصلاح مطلق في القوانين. حتى أنني لم أتنطّح لتقرير ما إذا كانت الثورة الاجتماعية، التي رأيت أن مسارها لا يُردّ، مفيدة للبشرية أم ضارّة".
اضف تعليق