من بين سطور التاريخ المنسية يلتقط الطبيب والمفكر المصري محمد أبو الغار حادثة وقعت لآلاف الفلاحين المصريين إبان الحرب العالمية الأولى التي لم تكن مصر طرفا فيها لكنه جمع أجزائها وبحث عن وثائقها وأدلتها وقدمها في كتاب بعنوان (الفيلق المصري)...
من بين سطور التاريخ المنسية يلتقط الطبيب والمفكر المصري محمد أبو الغار حادثة وقعت لآلاف الفلاحين المصريين إبان الحرب العالمية الأولى التي لم تكن مصر طرفا فيها لكنه جمع أجزائها وبحث عن وثائقها وأدلتها وقدمها في كتاب بعنوان (الفيلق المصري).
الكتاب الصادر عن دار الشروق بالقاهرة في 184 صفحة من القطع الكبير يتكون من ثمانية فصول ومقدمة وخاتمة إضافة إلى المراجع ومجموعة صور أرشيفية نادرة يتصدر الغلاف إحداها مع عنوان فرعي "جريمة اختطاف نصف مليون مصري". بحسب رويترز.
ويقول أبو الغار في المقدمة "وجدت بريطانيا مع بدء الحرب أنها في حاجة إلى أيد عاملة مدنية تصاحب الجيش البريطاني وتقوم بأعمال كثيرة ولجأت لتجنيد الفلاحين المصريين فيما سُمي ‘فيلق العمال المصري‘، وبدأ الأمر بالإغراء ثم انتهى باستخدام القوة والقهر، وانتقل هؤلاء الفلاحون مع الجيش البريطاني في أوروبا وخاصة فرنسا ودول أوروبية أخرى وأيضا في سيناء وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق".
ويضيف "هذه الأحداث لم تكن معروفة لأجيال من المصريين، ولم يكتب عنها الكثير إلا في السنوات الأخيرة مع الذكرى المئوية لثورة 1919، ووضحت التفاصيل المرعبة في الوثائق البريطانية التي أظهرت أن أكثر من نصف مليون فلاح مصري قد انضموا للفيلق، بينما كان تعداد مصر 12 مليونا فقط".
وبعد عرض مختصر للأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يسرد أبو الغار كيفية تكوين الفيلق وجمع أفراده من الريف والصعيد مستندا إلى مذكرات مجموعة من الساسة المصريين أمثال سعد زغلول وأحمد شفيق باشا وعبد الرحمن فهمي كما يستعين بكتابات المؤرخ عبد الرحمن الرافعي وحوار وحيد نشرته مجلة روزاليوسف مع أحد العمال العائدين من رحلة الفيلق.
ويواصل الكتاب تتبع يوميات الفيلق من خلال مراسلات ملازم في الجيش البريطاني يدعى فينابلز كان مسؤولا عن قيادة آلاف الفلاحين المصريين وكتب سلسلة خطابات إلى أحد أصدقائه دون فيها ملاحظات عامة ووقائع خاصة مع بعض العاملين بالفيلق، وهي الخطابات التي تستقر حاليا في المتحف الحربي البريطاني.
ومما جاء في أحد هذه الخطابات "تعرض 600 فلاح من المصريين القادمين للتو من مصر لعاصفة شديدة وهو شيء لم يروه من قبل في حياتهم في مصر. وكلهم أصابهم البلل الشديد وقالوا إنهم يريدون أن يلقوا بأنفسهم بجانب الطريق وينتظروا الموت، ولكن الضابط أجبرهم على المشي قدما في الطين بدون أكل واستخدم الضابط بعض العنف لدفعهم إلى الأمام، وقال الفلاحون إنهم يموتون وكانوا يتساقطون على الأرض".
ولأن أبو الغار شغوف بقراءة وفهم التاريخ المصري الحديث عمل من خلال التحليل والاستنباط على ربط حادثة الفيلق ومصائر العائدين منه وبين أحداث كبرى شهدتها مصر في السنوات التالية وفي مقدمتها ثورة 1919 إذ يرى أن الفقر الذي استشرى في البلاد بفعل نقص المحاصيل الزراعية بعد إبعاد الفلاحين عن أراضيهم، والقهر الذي تعرضوا له أثناء الخدمة بالفيلق، شكلا الإرهاصات الأولى للثورة في الريف قبل تأججها في المدن.
كما يرصد تغيرات اجتماعية طرأت نتيجة سفر الرجال خارج البلاد لفترات طويلة واحتكاكهم بجنسيات أخرى واصطدامهم بالحضارة الغربية منها التفكك الأسري وظهور أشكال جديدة من الجرائم لم يشهدها المصريون قبل الحرب.
وبقدر ما يحمل الكتاب من جهد بحثي بين ثنايا الكتب والوثائق كان البحث الميداني حاضرا إذ حرص أبو الغار على استقصاء كيفية التعامل مع رفات من قضوا في الحرب من الفلاحين المصريين ليكشف عن مفاجأة جديدة وهي وجود نصب تذكاري لضحايا الفيلق في مصر لا يعلم قصته سوى أشخاص لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.
يقول أبو الغار "أنا مصري مقيم طوال عمري في الجيزة، لم أسمع قط عن هذا النصب التذكاري، وسألت في مصلحة الآثار المصرية فلم أجد إجابة. وحيث أن المتوفين فلاحون وليسوا جنودا محاربين، فالأمر لا يتبع وزارة الدفاع. واستعنت بخرائط جوجل (NASDAQ:GOOG) فوجدت النصب التذكاري موجودا في نقطة معينة في الجيزة، وذهبت بالسيارة إلى هذه النقطة فلم أجد شيئا، وإنما وجدت معهدين لعلاج العيون وأبحاثها، وحولهما سور كبير".
ويوضح أبو الغار أن النصب التذكاري عبارة عن مختبر علمي ومتحف لعينات أمراض العيون مقام في حديقة المعهد التذكاري لعلاج العيون بالجيزة لكنه لا يحمل أي أسماء أو أعداد للضحايا، فقط عبارة بالإنجليزية تقول "المختبر التذكاري 1914-1918".
ويتمم الطبيب والمفكر المصري مهمته في اقتفاء أثر الفيلق قائلا "بمرور الزمن توارت الحكاية الأصلية واستمر اسم المستشفى ‘التذكاري‘ دون أن يفكر أحد لماذا سُمي بهذا الاسم. ولكنني وجدت صورا للوحات البرونزية التي تسجل تاريخ ذكرى وفاة الفلاحين وراكبي الجمال، وصور المبنى القديم للمستشفى والمبنى بعد تجديده، ولكن المبنى التذكاري بقي كما هو صامدا للزمن، لم يحدث فيه أي تعديل. وأخيرا ظهر للناس أين هو المبنى التذكاري".
اضف تعليق