ولأن الإنسان مجبول على الحرية ورفض العبودية المبغوضة لا العبودية المحمودة، فإن العمل على توفير مسلتزماتها هي من أولياته إذا عميت بوصلة السلطة عن قبلة الحق، وإذا ضاقت عليه حلقاتها إلى حد التصفية الجسدية فإن الهجرة هي سبيله واللجوء إلى بلد آخر وسيلته، ولا مناص...
عندما عزمت على الهجرة الثالثة إلى بلاد الغرب، كان تصوري منحصراً بعنوان "اللجوء السياسي"، وهو عنوان وردي يتمناه كل صاحب قضية ضاقت به البلدان بما رحبت بعدما عزَّ عليه الوطن في ظل سلطة غاشمة، ليس للتخفيف من معاناة الترحل هنا وهناك فحسب، بل ليجد متسعا ومراغما للعمل من أجل القضية التي يحمل همَّها والتي من أجلها تغرَّب في البلدان خارج أسوار رغبته وإرادته.
ولما كان الصدق هو عنوان صحيفة الإنسان، فكان الصدق هو ما عرضته على دائرة اللجوء في لندن عندما نزلت بديارهم، ومن الصدق فترة سجن في العراق بعد إعتقالي وآخرين من داخل مقاعد الدراسة الإعدادية سنة 1979م، ومن الصدق إعتقال وإعدام عدد من رفاق الدرب، ومن الصدق الهجرة القسرية إلى سوريا بعد محاولة إعتقال ثانية من داخل الدار سنة 1980م، ومن الصدق العمل الإعلامي والسياسي الموجه في معظمه لنصرة الشعب.
لكن الصدق كلفني إثنا عشر عاما من الإنتظار حتى حصلت على جنسية البلد المضيف، بعد أن رفضوا منحي اللجوء السياسي واستبدلوه باللجوء الإنساني، في حين كان يفترض الحصول عليها في أقل من نصف هذه المدة لو أصدقوني القرار كما أصدقتهم القول، ولكن اكتشفنا مع مرور الوقت أن الذي يلفق قصة تراجيدية عن عذابات لم يرها يرميها على مسامع المسؤول عن ملف اللجوء، يحصل على العنوان الوردي في أشهر وعلى الجنسية في سنوات قلائل، ولكل من العنوانين استحقاقه القانوني والمعنوي.
وعندما ارتفعت حواجز المنع في الوطن بعد تغير النظام السياسي، كانت الرغبة قائمة لمواصلة العمل في الداخل لاستكمال ما بدأنا به ونحن في مقتبل العمر، لكن الأمور لم تكن بهذه السهولة كما ظننا إذ كان على العائد بكفاءته وشهادته وخبرته ويريد خدمة البلد من غير وساطة وتزكية حزبية أو فئوية أن يثبت لدائرة الهجرة والمهجرين أن هجرته تحمل عنوان الجهاد وليس النزهة!، وعليه أن يفتح عندهم ملفا بهذا الشأن، فعمدت بعيدا عن الوساطة، رغم العلاقة التي تربطني بقيادات سياسية وحزبية على مستوى القمة، إلى المرور بسلسلة الإجراءات الإدارية حتى أثبت للدائرة المعنية أن هجرتي هجرة جهاد، واكتشفت بعد أشهر أن الدائرة أغلقت الملف ورقَّنته جانبا، وعندما استفسرت من مدير الدائرة كان جوابه وبكل بساطة أن القسم القانوني أغلق الملف لأنه لم يثبت لديه أن صاحبه سياسي وأن خروجه من العراق يافعا لم يكن هجرة نضال سياسي، ولرفع الترقين عليه أن يثبت ذلك بشاهدين وتزكية حزبية من أحد الأحزاب النافذة.
صدمني قرار دائرة الهجرة والمهجرين رغم السجن والهجرة القسرية والعمل السياسي والإعلامي منذ سنة 1976م، كما صدمني من قبل قرار الداخلية البريطانية الذي لم يعترف بي لاجئا سياسيا، فبلد مسقط الرأس لم يعترف بك مهاجرا سياسيا رغم الدلائل والمؤشرات التي كانت بحوزتهم والحضور الشخصي المقروء والمرئي في وسائل الإعلام لعشرات السنين وعشرات المؤلفات والدراسات وآلاف المقالات، وبلد المهجر لم يعترف بك سياسيا، وحيث منحني الثاني رغم الممانعة فرصة العمل السياسي والمعيشي والدراسة ونيل الشهادة العليا، فإن الأول أعدمتني قراراته الصادمة فرصة تقديم زكاة العلم والتجربة، ولله في خلقه شؤون، وهو أعلم بالمراد ومصلحة العباد.
مفارقة مرّة أليس كذلك.. مفارقة حانت إلتفاتتها إلى ذهني وأن أتابع قراءة كتيب "شريعة اللجوء" للمحقق الفقيه الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت حديثا (2020م) عن بيت العلم للنابهين في 47 صفحة ضم 75 مسألة شرعية مع مقدمة للناشر وثانية للمعلق الفقيه الشيخ حسن رضا الغديري، وثالثة لصاحب الشريعة، مع 16 تعليقة.
اللجوء حق مشروع
من سعادة المرء ان ينمو في بيئة طيبة سليمة، في ظل أسرة صالحة وحكومة عادلة، يأخذ من الدنيا حظوظه كما يأخذ لآخرته زاده، له أن يعبر عن رأيه ضمن حدود منطق الحرية دون خوف مساوقة مع قوانين البلد المعمول بها، يتعبد حيث يتعبد دون وجل ويتعلم حيث يتعلم دون ذعر ويعمل حيث يعمل دون ظلم، له أسرته وعالمه.
ولأن الإنسان مجبول على الحرية ورفض العبودية المبغوضة لا العبودية المحمودة، فإن العمل على توفير مسلتزماتها هي من أولياته إذا عميت بوصلة السلطة عن قبلة الحق، وإذا ضاقت عليه حلقاتها إلى حد التصفية الجسدية فإن الهجرة هي سبيله واللجوء إلى بلد آخر وسيلته، ولا مناص عن هذا الطريق الوعر إن أراد حياته والعمل من أجل حياة الآخرين، ربما يعد البقاء في البلد ومماشاة الظالم والعمل في ركابه على حساب رقاب الناس هو الظلم بعينه، وتغدو الهجرة حينئذ أكثر من واجبة، لأن دفع الظلم واجب ولو تحقق بالهجرة واللجوء، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (وما الإجارة واللجوء إلا لأجل حفظ النفس من مخاطر أمنية أو أمور حياتية بحيث لا يمكن الإستمرار في الحياة إلا بالخروج من المنطقة التي فيها للإعتصام بجهة تحميه مما فيه، وتنقذه عما فيه، ليعيش عيشة طبيعية ولو في أدنى مراتبها)، وقد ذمّ القرآن الكريم أولئك الذين ظلموا أنفسهم بقبول الظلم وعدم ممانعته بحجة الإستضعاف بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً. إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) سورة النساء: 97- 99.
فالإنسان بطبعه ميال الى الأرض والإلتصاق بها ولا يريد الإنحياز عن دائرة موطنه وملعب صباه رغما عن أنفه إلا لأجل طلب العلم أو التجارة أو السفر والترويح عن النفس، أو زيارة قريب أو صديق، وما أشبه ذلك، وأما السفر الطويل القسري فهو غير محبذ بالمرة وإنما يلجأ إليه مضطرا ولهذا يعتبر سفره القسري لجوءًا واستجارة بالآخر للحفاظ على حياته، فاللجوء والإجارة كما يفيد الفقيه الكرباسي: (لفظتان وردتا في اللغة العربية هما الإجارة واللجوء، فالأولى استخدمها القرآن الكريم وتأتي لغة بمعنى الإغاثة والإنقاذ والحماية، والثانية تأتي بمعنى الإعتصام واللواذ، تقول لجأ إلى الحصن مثلا أي اعتصم به ولاذ إليه)، إذاً: (اللجوء: هو الإعتصام بالآخر واللوذ به ليؤويه ويدفع بذلك عنه الخطر والشر المحدق به.. والإستجارة: هي الإستغاثة بالآخر والإلتجاء إليه والإحتماء به.. فاللجوء والإستجارة في المآل مؤداه واحد).
دوافع اللجوء ومبرراته
ليس العمل السياسي المحض هو وحده الدافع لطلب اللجوء، وإن كان هو الظاهر للعيان حينما يحتكر شخص أو مجموعة أو حزب كامل العمل الحزبي والسياسي في البلد ويحظر على الآخرين العمل إلا تحت واجهته أو الملاحقة كما هي معظم الحكومات الشمولية، فالأسباب كثيرة، ويشير المعلق في مقدمته إلى أربعة دوافع يراها هي محور طلب اللجوء إذ: "لا يخفى على المتتبع الخبير أن المجتمعات البشرية تواجه التخاصم والتنازع بين أهلها بشكل وآخر، فتارة بسبب الإختلاف في العقيدة، والأخرى في الأمور المالية والإجتماعية والثالثة في العادات القومية ونحوها، ورابعة الخلاف في المسائل السياسية والحكومية، والأخيرة من العلل العامة التي سببت شيوع اللجوء بين الناس).
وإذا كانت هذه مجمل دوافع اللجوء، فإن الفقيه الكرباسي يحدد وفقا للقرآن الكريم ثلاث حالات من اللجوء: (لجوء المسلم إلى بلاد غير المسلم، ولجوء غير المسلم إلى المسلم، ولجوء المسلم إلى المسلم)، وقد سنّ القرآن أعظم قانون للإجارة واللجوء عندما قبل حتى لجوء المشرك وترك له حرية الإيمان من عدمه وتوفير الحماية الأمنية له بقوله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) سورة التوبة: 6، وبناءً عليه كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (يجب على المسلم قبول الإلتجاء لمن ليس بمسلم، ويعد هذا حقاً من حقوق المواطنة في الدولة الإسلامية)، بالطبع: (على اللاجيء غير المسلم ان لا يعمل على نقض الإسلام وضده، بل الواجب عليه أن يلتزم بالقوانين الشرعية السائدة وعدم مخالفتها) مع الإحتفاظ بحقه في ممارسة طقوسه وعبادته دون تبشير، ويزيد الفقيه الغديري: (بل وعلى الدولة الإسلامية الإهتمام بمعتقداته وأداء واجباته الإعتقادية بعد القبول المعطى له، ويراعي في ذلك أن لا يكون فيه نشر معتقده أو تشويه وجه الإسلام بنحو وإلا فلا يسمح له في العلانية"، وعليه ومن حيث القانون العام وكما يفيد الفقيه الكرباسي: (يطبق قانون الدولة الحاكمة والعدالة على المستجير واللاجئ إلا في العقيدة فإنه حرٌّ فيها).
وللجوء سيئاته
لاشك أن اللجوء عملية قائمة منذ الخليقة تشترك فيها ذوات الأرواح من عاقلة وغير عاقلة لحماية الكائن الحي ومن يلوذ به، فاللجوء ليس هروبا طوعيا، ولكنه محاولة صعبة من أجل البقاء وفيه تبعات كثيرة على المرء ومن يحيط به، بل يصل الى مرحلة الوجوب، وبتعبير صاحب الشريعة: (اللجوء قد يصبح واجبا إذا كانت هناك ضغوط هائلة بحيث لا يمكن من إقامة الدين فيها، إذ من الواجب على المسلم أن يأخذ حريته في الحياة كما فرضها الإسلام).
وإذا خُير المضطهد بين اللجوء إلى دولة إسلامية أو غير إسلامية فالأولى مقدمة إذا توفرت له فيها أدوات الحرية، وكما يؤكد الفقيه الكرباسي: (إذا تمكن اللاجئ المسلم أن يلتجئ إلى دولة إسلامية يمكن أن يعيش فيها بسلام فعليه أن يفعل ذلك، ولا يلجأ إلى دولة غير إسلامية).
ويقتضي في اللجوء السليم وجود المبررات حقاً، إذ: (لا يجوز للاجئ المسلم الكذب على دولته الإسلامية القادم منها بأنه مضطهد أو أنه ملاحق من قبل رجال الأمن ليتمكن من الحصول على اللجوء)، كما: (لا يجوز أن يكون لجوؤه لأجل الحصول على المال وهو غير محتاج ويكذب ليكون لاجئا سياسيا ويزور أوراقا بذلك)، فالتزوير في هذا المقام إنما هو تدليس غير مبرر من أجل الكسب الحرام، وإلا فإن تزوير الجوازات أو سمة الدخول هي الصفة الغالبة لمن يطلب اللجوء السياسي حقا، وهو ما يشير إليه الفقيه الغديري في تعليقه: (يجوز تزوير الأوراق الرسمية إذا تمت شروط اللجوء ويكون الخطر على نفسه أو عرضه أو ماله).
ولكون القاعدة العقلائية قائلة بأن الناس عند شروطهم، فإنه: (لا يحق للاجئ مخالفة قوانين الدولة المستضيفة وإرباكها والتحايل عليها بأي وجه من وجوه الإخلال بالقانون)، وعدم المخالفة لا يعني التماهي مع العادات والتقاليد المتعارضة مع تقاليد اللاجئ ومعتقداته، وبالنسبة للاجئ المسلم عليه: (أن يحصِّن نفسه وعياله وأولاده من الإنزلاق نحو الإنحراف والتخلق بأخلاق غير المسلمين وعقائدهم المرفوضة إسلاميا).
في الواقع ورغم الهالة الكبيرة التي تحيط بعنوان اللجوء فإن فيه من السيئات ما جاءت على سلامة العائلة وأواصرها بغض النظر عن كونها مسلمة أو غير مسلمة، فالإغراءات أمام الشباب والشابات كثيرة، والممانعات أمام الوالدين أكثر مما أوقع البعض في المنزلق البعيد عن تقاليد البلد الأم وعاداته ومعتقداته، فليس اللجوء كله جنة (!)، وأسوأ من اللجوء عندما لا يجد المغترب موطئ قدم في بلده عندما ترتفع أسباب الهجرة القسرية، فيرى بالمهجر وعلى مضض وطناً له ولعقبه!
اضف تعليق