q

تعد منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا محور تصارع الارادات العالمية والاقليمية وهذا هو السبب الاساس لعدم استقرارها ناهيك عن المشاكل الداخلية لنظام الدولة وتصدعه. ونتيجة لتلك الاسباب تشهد المنطقة حروب عدة ارتبطت بمواجهة التنظيمات الارهابية مثل داعش وجبهة النصرة والتنظيمات الارهابية الاخرى تارة، وبتصاعد الرفض للأنظمة السياسية القائمة الى حد وجود معارضة مسلحة ووجود فواعل من غير الحكومة مانحة ولائها للدول الاقليمية تارة اخرى. وهذه الصورة المعقدة تجعل الادارات الاميركية في خلاف في وجهات نظرها لحل ازمة عدم الاستقرار في المنطقة بما يتناسب والمصالح الاستراتيجية الاميركية.

أحد مفارقات الادارة الاميركية الجديدة برئاسة ترامب انها جائت في وقت تخوض فيه الولايات المتحدة حروب بدرجات متفاوتة في خمسة بلدان مختلفة في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا وهي العراق، سوريا، ليبيا، واليمن، فضلا عن استمرار مايسميه بعض الباحثين "الحرب الطويلة" في افغانستان.

حالياً هذه الخمس حروب ترتبط بالإرهاب وبالأخص تنظيم داعش الارهابي وتنظيم القاعدة وتفرعاته -فتنظيم داعش هي محور التركيز لحروب العراق، سوريا، وليبيا– والى درجة ما بالتهديدات الجدية لمستقبل الاستقرار في الشرق الاوسط وشمال افريقيا (MENA) والمصالح الاستراتيجية الامريكية. ولكن ما هو موقف الادارة الاميركية الجديدة من تلك الحروب؟

لم يقدم ترامب معالجة جدية للسياسة الامريكية لأي من هذه الحروب الخمس، كما ان ادارة الرئيس اوباما لم تذكر علنا استراتيجيتها الكبرى بالنسبة لأي صراع. لأول مرة في تاريخها تكون الولايات المتحدة وسط حروب خلال حملة الانتخابات الرئاسية من دون مناقشة جدية الى أين ذاهبة في حروبها، او ماذا ستكون عليه الاوضاع في الامد الطويل؟

دائما يركز الرؤساء الاميركان بعد فوزهم على تنفيذ وعودهم الانتخابية وهنا تسير السياسات والاعلام باتجاه التركيز على تحقيق تلك الوعود. فالرئيس اوباما وعد بإنهاء الحروب في العراق وافغانستان وسحب القوات الاميركية منهما. وهذا الوعد نابع من ضرورة قراءة الرأي العام الاميركي وتركيزه على التكاليف البشرية والمادية التي تحملتها الولايات المتحدة نتيجة تلك الحروب. لذا أصبح تركيز الاعلام ومراكز الابحاث على متابعة مدى نجاح وعود الرئيس اوباما في تعامله مع قضايا الشرق الاوسط في تحقيق اهدافها. وهذا التركيز يتجاهل ما اذا كانت هذه الوعود قادرة على تحقيق الاستقرار في المنطقة بعد انهاء الصراعات المسلحة ام لا؟

النصر الحقيقي في الحروب يتجسد بما يحدث بعد انتهاء القتال

يرى كثير من الباحثين الاميركان ان الادارة الاميركية وعدم انتباهها الى حروب منطقة الشرق الاوسط هو شيء خطير جدا مقارنة مع كل حروبها السابقة. وهي خطرة بالخصوص في حالة الحرب في العراق، سوريا، ليبيا، واليمن. فالولايات المتحدة تدعم مزيجا مختلفا جدا من القوات في كل بلد وبطرق مختلفة ويبدو ان الهدف من ذلك هو منع الحركات المتطرفة مثل داعش وجبهة النصرة وغيرهما من السيطرة الاقليمية او القدرة على تأسيس اي شكل من اشكال الحكومة والملاذ.

وهذا الهدف يتسم بمحدودية المدى، كما انه لم يركز على استراتيجية بعيدة المدى هدفها تحقيق الاستقرار. وادوات الولايات المتحدة الرئيسة في كل منطقة حرب هي مزيج من القوة الجوية وجهود المساعدة والتدريب ونقل الاسلحة الى الفصائل المحلية. كذلك وفرت الولايات المتحدة عدد محدود من المدفعية الارضية والدعم للقوات الخاصة في العراق، ومزيج من الدعم لأنواع مختلفة جدا من الفصائل في سوريا، وجهود جوية في ليبيا.

في كل حالة، ربما تنجح الولايات المتحدة لدرجة تحقيق توازن كافِ لتحقيق هدفها الضيق وهو دحر داعش الى درجة حيث يكون داعش غير قادر على السيطرة على المدن الكبرى او مساحات من الاراضي. علاوة على ذلك، ربما تحقق الولايات المتحدة الى درجة كبيرة هدفها في الاشهر الاولى لإدارة الرئيس دونالد ترامب. اذ لا احد يستطيع انكار بأن قدرة داعش في السيطرة على المراكز السكانية، وعلى مساحات من الاراضي، وقدرته في السيطرة على ملاذات تمويله، وتدريبه الارهابيين والمقاتلين، وتحمله جهود تعليم افراده –مع خطورتها– باتت محدودة وفي انحسار متزايد كما في حالة العراق.

ليس هناك توقع او افق لمثل هذه الحروب. ومع ذلك، فأن الولايات المتحدة ستحقق هدفها في المدى القريب بالمعنى الضيق لهزيمة داعش تماما. ولكن يبقى التخوف قائما فيما بعد نهاية هذه الحروب بالمعنى الاستراتيجي الاوسع المتضمن تحقيق الاستقرار المستدام.

لذا يشير عدد من المهتمين الى حقيقة عدم استيعاب الولايات المتحدة الدروس من ماضيها. فالاختبار الحقيقي للنصر هو ليس النجاح التكتيكي او حتى أنهاء الحرب بالشروط العسكرية المؤاتية ابدا، بل في ماهو القادم. فالحرب العالمية الاولى كانت نصرا عسكريا اصبح كارثة استراتيجية كبرى. الحرب العالمية الثانية قادت الى حرب باردة استمرت ما يقارب نصف قرن، وظهور التهديد النووي الوجودي للولايات المتحدة، وايضا "السلام" الذي لايزال لم يخلق علاقات مستقرة مع روسيا. عزل كوريا الشمالية لمدة أكثر من نصف قرن في مأزق غير مستقر يقودها الى ان تكون قوة نووية. ونتج عن سخرية فيتنام سلسلة من الانتصارات التكتيكية الاميركية والتي انتهت بهزمية استراتيجية كبرى تبعها تدريجيا وبشكل اوثق علاقات استراتيجية للولايات المتحدة مع عدوها السابق.

علاوة على ذلك يبدو ان القادة السياسيين في الولايات المتحدة تجاهلوا تحذيرات من كبار الخبراء المسؤولين مثل رئيس هيئة الاركان المشتركة، مدير الاستخبارات الوطنية، وخبراء المركز الوطني لمكافحة الارهاب بأن اي انتصار يحرم داعش من السيطرة على المدن ومساحات كبيرة من الارض في العراق وسوريا وليبيا سيكون محدودا في أحسن الاحوال. المخططون العسكريون الاميركان –كما هو حال نظرائهم العراقيين– يهتمون كثيرا بأن تحرير الموصل سيثير على الاقل سنة من الهجمات الثابتة لتنظيم داعش من المقاتلين المتفرقين والمختبئين في غرب العراق ولايبدو ان هاك معالجة دقيقة لكيفية تأمين مناطق غرب العراق الى ان يتم هزيمة داعش في سوريا ايضا. وتجسد ذلك في بعض الهجمات الاخيرة للتنظيم ضد قوات الامن العراقية في غرب البلاد، فضلا عن سبب آخر هو عدم توفر البيئة المضادة لظهور التطرف بمضامينها السياسية والاقتصادية والاجتماعية للانتقال الى تحقيق الامن المستدام.

هذا الامر يبرّز القضية الاوسع لما سيحصل للآلاف من مقاتلي داعش اذا خسر التنظيم مراكزه السكانية الرئيسة في العراق وسوريا مثل الموصل والرقة، وكذلك سيطرته على الشريط الساحلي في مدينة سرت في ليبيا. فالكثير منهم -وهنا نتكلم عن المقاتلين المحليين– سيبقى في مناطق بعيدة عن سيطرة القوات الامنية، كما في العراق في جبال حمرين وهجماته المتكررة، والهجمات التي يشنها التنظيم في المناطق المحررة من سيطرته في سوريا وليبيا، كما ان التنظيمات التي انضموا لها قد تُبقي او لا تُبقي على اسم داعش. وهذا يدفع الخبراء الى ترجيح بقاء التطرف الاسلامي العنيف ليهدد كل نظام معتدل في العالم الاسلامي، فضلا عن ترجيحهم عودة مقاتليه الاجانب الى بلدانهم وممارسة العنف والارهاب في الولايات المتحدة واوروبا وبعض البلدان في جنوب اسيا. وبالنتيجة فإن كل ارهابي سيشكل تهديدا لأجل غير مسمى في المستقبل.

علاوة على ذلك، كل العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية التي ادت الى ظهور مثل هذا التطرف والفوضى الواسعة النطاق التي بدأت عام 2011 نمت بشكل اسوأ في النصف الاول من العقد الجاري في بلدان الصراع.

ويبدو ان محاولة او مسعى مواجهة التطرف الارهابي قد تحسنت نسبيا، ولكن لايوجد هناك نجاح مشابه في معالجة مزيج معقد من الاسباب الكامنة الاخرى. فالاضطرابات المدنية، الحرب الاهلية، العنف الاثني والطائفي، خسارة الاستثمار وهروب رؤوس الاموال، الاعداد الهائلة للاجئين ومشاكل النازحين، فقدان ايراد السياحة، وانخفاض ايرادات البترول نتيجة انخفاض اسعار النفط تنتج وحدها زيادة لا يمكن التنبؤ بها في التطرف والارهاب. الامر الذي يجعل الامور اكثر سوءاً.

ومع ان الاحصائيات الاخيرة لـ(START) في التقرير السنوي لوزارة الخارجية الاميركية حول الارهاب احصت وجود خمسة تهديدات رئيسة، ثلاث منها تضم مايسمى التطرف "الاسلامي" الواضح: داعش في العراق وسوريا، حركة طالبان، وحركة بوكا حرام. ويؤشر التقرير وجود اكثر من 40 جماعة اسلامية متطرفة مدرجة في قاعدة بيانات تقرير (START)، ولكن حتى مع النظر الى الجماعات الثلاث الرئيسة، فإن داعش مسؤول عن 37% من الهجمات و38% من القتلى.

ومع ان المصالح الاميركية كانت ولازالت هي الهدف الاساس في التعامل مع دول المنطقة -ففي الوقت الذي تتدخل الولايات المتحدة عسكريا لبناء نظم ديمقراطية نلاحظها توفر الدعم السياسي والامني لدول ذات انظمة شمولية تنتهج مناهج التطرف في التنشئة الاجتماعية والثقافية وتقدم الدعم لمجموعات متطرفة لأسباب سياسية يشكلون فواعل موازية للحكومات- الا ان الادارة الاميركية اليوم من الاهمية بمكان أن تنظر الى ما هو ابعد من الهوس بالقضاء على تنظيم داعش، وتنظر الى اهمية وجود معالجة متكاملة في ابعادها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية...الخ للأسباب التي ولدت التطرف والارهاب.

وان يكون دورها باتجاه دعم الدول والمجتمعات في المنطقة للتخلص من التهديدات الارهابية القائمة خلال الامد القصير، ومن ثم دعم الانظمة السياسية ذات الارادة في اعادة ترميم نظام الدولة الحديثة في الامد الطويل. وهذه الاهداف تعتمد ايضا مشاركة هذه المجتمعات في تقرير شكل وطبيعة أنظمة الحكم سياسيا وادارياً في بلدانها.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

اضف تعليق