يعتقد البعض أنه أقرب الى الواقع والى الجمهور عندما يتحدث عن المستور وعما لا يقوله الآخرون من أمور تهم الشأن العام، فهو يكون حامل لواء الحقيقة وضمير الناس، حتى وإن كان في الخطاب ما يثير المشاعر السلبية او ربما لا يحقق الفائدة ولا يحل أزمة قائمة.
بالرغم من أن "الفضح" كمفهوم وممارسة لا يحبذه أحد من الناحية الفطرية، للطابع السلبي الذي يحمله، فلا يحب أحد أن يتعرض للفضيحة فيما يرتكبه من أخطاء أمام الملأ، ولكن؛ نلاحظ البعض يمارس هذا العمل بسبب غياب الجهات المخوّلة لحل تلك الازمات.
وفي بلد مثل العراق، مبتلى، ليس فقط بمشاكله المزمنة، وإنما بتجربته السياسية – الديمقراطية، تكون المفاهيم والقيم أكثر عرضة للتشوّه مما يسبب التباساً لدى الرأي العام بين ما هي صحيح او ما هو خطأ، وما يجب فعله او ما يجب تجنبه، فالبعض يدعو الى كشف المستور من الاخطاء التي يرتكبها المسؤول في الدولة بغية الحدّ من الانحراف والفساد وحماية مصلحة المواطن، ولكن؛ في معظم الاحيان نلاحظ خيطاً رفيعاً فقط يفصل بين الصالح العام والمصلحة الشخصية في فضحه هذه القضية وتلك.
لندع الطريقة الفضلى لحل الأزمات بالتي هي أحسن، وفق المعايير الحضارية ونسلّط الضوء على اسقاطات هذا اللون من الخطاب على الواقع الثقافي والاجتماعي في العراق، وربما في معظم بلادنا الاسلامية التي تعيش ظروفاً مشابهة.
وكما قيل: "الانسان حريص على ما منع"، والانسان بطبعه محب للإثارة مما يسمعه عن الآخرين، لاسيما اذا تعلق بالمال او الجنس او السلطة، لنأخذ نظرة سريعة على المواقع الخبرية المعروفة في العالم، والخبر الأكثر قراءة، نجد أن الفضائح لها الأولوية، اكثر من التطورات السياسية او الاخبار المتعلقة بانجاز علمي او مأساة انسانية.
وعندما يصر البعض من الساسة على انتهاج لغة الفضح والإثارة على الشاشة الصغيرة او من خلال المواقع الخبرية على الانترنت فانهم يجنون على المجتمع وعلى الحقيقة التي يدعون حمايتها وذلك في عدة أمور نذكر اثنين منها:
الاول: تطبيع حالة الفساد والانحراف الى حد الاستسهال والقبول بها كواقع يعيشه الناس، وليس أمراً مستهجناً لابد من مواجهته، وقد حدث في بلاد عدّة ظهور صحافة الفضائح والإثارة بيد أنها لم تصمد امام انتقاد النخبة المثقفة التي وجدت في هذه الصحافة عاملاً لاستسهال جرائم القتل والاغتصاب واللصوصية حتى من صغار السن، فصدرت بحقها قرارات الغلق والتوقف عن الصدور، واذا كان يصدق هذا على الحالة المجتمعية فانها تصدق ايضاً على الحالة السياسية، فان الحديث المستمر وبالفم المليان عن سرقة هذا الوزير وذاك النائب وبشكل مستمر ، فربما يأتي يوم يستغرب الناس عدم سماع أي خبر من هذا النوع، بدلاً من توقع الاخبار الايجابية.
واذا نتحدث بشكل خاص عن العراق، فان تطبيع الحالة السلبية إزاء المسؤول أو أي مؤسسة وجهة فاعلة في المجتمع والدولة، يعني التخلّي تماماً عن فكرة الإصلاح التي ستكون مغرداً خارج سرب اليأس والعجز والخذلان الذي يسود الشارع العام، وربما لسان حال من يقول: "الجميع لصوص" و"الجميع مرتشون" وأشباه ذلك، بأن لا أمل في الإصلاح في هذا البلد، ولا جدوائية من البحث عن العناصر الايجابية، أما البحث عمن يحمل الضمير والوجدان والاخلاق والقيم، فانه من لا يعدو حديثاً في المثاليات البعيدة المنال.
الثاني: تطبيع حالة الخديعة والتزييف في العقول؛ فما يبقى من سبيل للوعي السياسي اذا كانت هذه السياسة تنتج الفاسدين والمخادعين والدجالين؟!.
وأرى من الجدير الإشارة الى الجهود المضنية والجبارة التي تبذلها مؤسسات ثقافية ومراكز دراسات لاعداد بحوث علمية وصياغة فكر سياسي واقتصادي وايضاً رسم توجهات مفيدة للمجتمع، ثم نلاحظ تعرض كل هذه الجهود للضياع بسبب تسميم الاجواء بالفضائح ولغة التسقيط التي نراها أقرب الى الرأي العام من غيرها، في حين أن الهدف الأسمى للتنظير والتخطيط، صناعة وعي جماهيري بالتجارب السياسية مثل الديمقراطية والتعددية والحرية وغيرها بشكل يمكنهم من الانتخاب الصحيح عند صناديق الاقتراع، أو التأثير على صنّاع القرار.
وإذن؛ فان الفضيحة السياسية لن تكون يوماً الوسيلة النبيلة بيد الشعب لتقويم الأداء السياسي بقدر ما هو سلاح غير نظيف بيد الساسة لتصفية الحسابات بين الخصوم، لأن من يتعرض للإدانة في عملية فساد أو خطأ في عمله، فانه يسارع لإخراج فضيحة جاهزة من جيب سترته ليوجهه الى تلك الجهة التي صدرت منها الإدانة.
بينما في جميع الدول المتحضرة والمتقدمة، فان المؤسسات الدستورية، مثل البرلمان والقضاء، والجهات المعنية المتخصصة، هي المخوّلة باستجواب المقصّرين في أعمالهم، قبل أن يكون الخطأ وقوداً لنار الفضيحة والتسقيط.
اضف تعليق