كان يوم الاثنين من الأسبوع الفائت، حافلا بحراك فصائلي وسياسي ووطني وإسلامي كبير ولأول مره في المشهد الفلسطيني، وذلك من اجل كسر حالة الجمود السياسي وحلحلة الموضوع الداخلي وترتيب البيت الفلسطيني ومن أهمها إنهاء الانقسام وإتمام ملف المصالحة وتشكيل حكومة الوحدة وإجراء الانتخابات والتي القت بظلالها الثقيلة على الوطن والشعب طيلة السنوات العشرة الماضية.
ومنذ الساعة الحادية عشر صباحا وحتى الساعة الحادية عشر والنصف ليلا وعلى مدار يومين كاملين، كانت النقاشات والاجتماعات والحوارات متواصلة على مستويات الأمناء العامون وأعضاء اللجنة التنفيذية والمكاتب السياسية للقوى والفصائل والأحزاب الفلسطينية، وعلى الأرض اللبنانية الشقيقة.
إن هذا الاجتماع التحضيري والذي دعا اليه رئيس المجلس الوطني الفلسطيني اصبح يحتل واجهات كل وسائل الاعلام المحلية والعربية والدولية، لما له من اهمية في الشأن العام الفلسطيني بشكل خاص والشأن الإقليمي بشكل عام، ولكن ما لفت الانتباه من هذا اللقاء ان ممثلي بعض الفصائل والقوى والذين تحدثوا لوسائل الاعلام عن ذلك الاجتماع اشتركوا في خطاب استهلاكي شعاراتي، فهم استخدموا مفردات معينة مثل ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، ووحدة الصف الوطني، والحفاظ على الثوابت الوطنية، وتقديم مصلحة الوطن، وتغليب لغة الحوار، وعدم التصعيد، والابتعاد عن الفتنة، والقضاء على التعصب الحزبي، وتوحيد المؤسسات الوطنية، واستكمال إعمار الوطن، وحل المشكلات المستعصية، والعمل الحثيث من أجل إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية، والفصل بين المسائل السياسية والحياتية، والاتفاق على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية والمجلس وطني، وما الى ذلك من أمور إنشائية وهي بحق أعتبرها لغة عائمة لا قيمة لها، وقد حاول الجميع الابتعاد عن صلب الموضوع وهو إنهاء الانقسام وإتمام المصالحة، والمشكلة خوفا او طمعا وتفضيل هذا النوع من الخطاب السطحي، وراء الكواليس هناك لغة ثانية ليست للنشر، فالوضع الحالي ومخاطره يجب ان ينتهي الى حل حاسم قد لا يرضي الجميع، وصاحب الحل المفترض سيستخدم نقاط ضعف للقوى السياسية ومأزقها لفرض خياراته، وهذا الاجتماع التمهيدي قد يكون ضروريا للتخفيف من قسوة الحلول المقبلة وليس تجنبها، فالبعض من القوى والأحزاب فصائل قد اصبحت ضعيفة وغير مستعدة للدخول في معركة فاصلة، وكل من يمارس تصدير تهديدات اكبر من حجمه في هذه الأزمة فهو مؤشر على ضعفه وخوفه الذي يدفعه الى اجراءات تغطية خطابية.
الغريب في الساحة الفلسطينية ان الكل الفلسطيني يتحدث عن لغة الوحدة والتفاهم والحوار وقبول الاخر وضرورة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني وترتيب بيت منظمة التحرير الفلسطينية، لكنك تتعجب اكثر عندما تجد نفسك عاجزا عن ان تفهم ما يريده البعض من القوى والفصائل ولغة التشنج والإصرار على المواقف القديمة، او ان تستمر الازمة السياسية طيلة هذه الفترة الطويلة دون تحريك المياه الراكدة، ويرتفع سقف المطالب وكلما مر الوقت دون الوصول الى حل او حتى الحديث عن اطر ذلك الحل، وان المجلس المؤمل انعقاده تحول الى مشكلة فاختلفوا على مكان انعقاده في البداية، فكيف يتفقون على انعقاده، ومن ثم تحقيق ما هو مرتجى منه، ويبدو ان المختلفين اعتادوا على هذا الخلاف وبعبارة ادق ان الخلاف لديهم هو الوسيلة للهروب من الواقع والحقائق.
وعلى سبيل المثال بعض المتحدثين من بعض القوى والفصائل مستعدون ان يوصلوك الى المريخ وان ينزلوا الى اعماق الارض، ويأخذوك في عالم التحليل السياسي والمصلحة الوطنية، وما يجب ان يكون والمنطق السليم يفرض كذا والمفروض ان يحدث كذا، لكنهم يخرسون وتبتلع السنتهم العصفورة وتغمض العيون عند الوصول الى الحرف الاول من موضوع إجراء الانتخابات.
ولكن اللافت للنظر هو دخول حركتي حماس والجهاد الاسلامي لهذا الاجتماع ولأول مرة، ولقد أضاف هذا التواجد تنوعا جديدا هذه المرة على اعتبار تعدد الرؤى لكل فصيل فلسطيني واختلاف توجهات هذه الفصائل ما بين الليبرالي والقومي والاشتراكي والشيوعي وأخيرا دخول الفصائل الإسلامية، إلا ان وجودهما قد اطلق اشارات واضحة على عمق الإخوة والشراكة والتوافق الوطني، بحيث ان القول بأن الازمة لم تحل بوجودهما، ولكنها تحلحلت بمقدار معين كان لابد منه لتجنب الخيارات السيئة هو الاقرب الى الواقع.
وسواء تحققت تلك الحلحلة بفعل شعور وإدراك هاتين الحركتين بالمسؤولية الوطنية وبأهمية التوصل الى توافقات واتفاقات تسوية وحلول وسط لإنهاء الانقسام وإتمام المصالحة حتى الوصول لتشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، او بفعل ضغوطات خارجية اقليمية ودولية، فانه لا خلاف على حقيقة ان الازمة الفلسطينية خرجت من عنق الزجاجة وتجاوزت المنعطفات الخطيرة، ولم تعد هناك خشية للعودة إلى المربع الأول.
لا نبالغ هنا لو قلنا أن تجارب الاعوام العشرة الماضية التي اعقبت حدوث الانقسام البغيض، أكدت وأثبت ان التوافقات الوطنية تأتي في كل الاحوال والظروف بأفضل النتائج وأحسنها لجميع القوى والفصائل والأحزاب والكيانات والمكونات، وان التدخلات الخارجية كانت تجلب دائما المشاكل والأزمات والماسي والكوارث ان عاجلا ام اجلا، ولسنا بحاجة الى ان نتوقف طويلا عند صفحات ومحطات تاريخنا المعاصر حتى نتيقن مما ذهبنا اليه لان كل الامور واضحة وجلية بما فيه الكفاية.
واليوم ونحن جميعا قيادة وشعب وفصائل وقوى نقف عند منعطف حساس وخطير، وعند محطة حاسمة، علينا ان لا نقع في اخطاء وقعنا فيها او وقع فيها اخرون في اوقات سابقة، وعلينا ان نفرز بين المناهج الصحيحة والمناهج الخاطئة، وعلينا ان نضع معايير وطنية عامة نحتكم اليها لنحسم خلافاتنا واختلافاتنا ونلتقي عند نقطة معينة، ونجتمع على رؤية واحدة، فمقومات وعناصر التوافقات الوطنية كثيرة وكبيرة، وما يجمع بين الشركاء في الوطن الواحد اكثر مما يفرقهم، والتنوع الفسيفسائي للمجتمع الفلسطيني، قوميا ودينيا ومذهبيا وطائفيا وعشائريا، يمثل نقطة قوة اكثر منه نقطة ضعف، وإذا كانت قد حدثت انقسامات ومشاكل وأزمات بين البعض من مكونات المجتمع الفلسطينيي الواحد في الماضي البعيد او بالأمس القريب، فليس لان هناك خللا في منظومة العلاقات والروابط الاجتماعية والسياسية والثقافية بينها، وإنما لان قوى وأطرافا خارجية دخلت على الخط وأرادت ان تفرض خياراتها وتمرر اجنداتها وتملي اراداتها، وربما لا يغيب عن بال الكثيرين من ابناء الشعب الفلسطيني مبدأ "فرق تسد" الذي عملت به قوى خارجية دولية في دول مختلفة من بينها الوطن الفلسطيني، وكانت له اثارا ونتائج سلبية ما زال جزء منها ماثل لنا بمظاهر وأساليب وسياقات شتى، وإذا كنا في هذه المرحلة الحرجة والحساسة امام خيارين، الاول الجلوس مع بعضنا البعض لنحدد مساراتنا الصحيحة ونضع النقاط على الحروف، والثاني طرق ابواب الاخرين ليحلوا لنا مشاكلنا، فالأولى بنا ان نلجأ الى الخيار الاول مع ما فيه من صعوبات ومشاق، لأنها بالتأكيد لن تكون اكثر من تبعات واستحقاقات الخيار الثاني.
والى جانب ذلك فان تجربة الاعوام العشرة الماضية اثبتت ان التوافقات السياسية من شأنها ان تفضي الى حصول مرونة في بلورة الخطوات والمقدمات المطلوبة لإقامة دولة مستقلة ومتجانسة ومنسجمة، تختفي وتذوب فيها الاحتقانات والتشنجات والانقسامات والصراعات، مما يمهد بالتالي الى احتواء نزعات العنف والتطرف، ويمنع اندلاع حروب وصراعات اهلية بين فئات وطوائف وقوميات وجماعات المجتمع الفلسطيني السياسية والوطنية المختلفة التي قد يجد البعض منها نفسه مهمشا ومهضوم الحقوق في ظل غياب التوافقات السياسية، ولاشك فان هذا كله وما يرتبط به بشكل او بآخر ممكنا الى حد بعيد اذا صدقت النيات وحسنت السرائر، وتم تقديم العام من المصالح على الخاص منها.
وفي مرحلة تحول مثل تلك التي يمر بها الوطن الفلسطيني اليوم، تلعب الشراكة والتوافقات الوطنية بين الفصائل والأحزاب والتيارات والقوى المختلفة في الساحة الفلسطينية دورا كبيرا وربما محوريا في اشاعة الامن والهدوء والاستقرار، وحل ومعالجة المشاكل والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية، وإنجاح النظام السياسي وتقوية وتثبيت مرتكزات المشروع الوطني، وقد تكون أهمية الشراكة والتوافقات الوطنية اكبر في وطن يتميز نسيجه الاجتماعي بالتماسك.
إن ما تشهده الساحة السياسية الفلسطينية من حراكا واضحا بمختلف الاتجاهات والمستويات، وليس هذا في الامر غرابة، بل ان ذلك هو الشيء الطبيعي والمفترض من بداية الازمة، لان الخطوة الاهم بعد إنهاء الانقسام بحق وحقيقي، هو تشكيل حكومة وحدة وطنية ومن ثمن اجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وبعد اعلان نتائجها خلال الفترة القليلة القادمة، تتمثل بتشكيل الحكومة الجديدة، وهذا ما يتطلب حوارات معمقة وجادة بين مختلف الفصائل والقوى والكيانات والتيارات السياسية، لاسيما الكبيرة منها، التي يقع على عاتقها الجزء الاكبر من مسؤولية ادارة وتوجيه شؤون الوطن الفلسطيني.
ان وحدة الهدف هي المفتاح الحقيقي لمعالجة الكثير من الإشكاليات التي نواجهها اليوم، وان هذه المعالجة لا يمكن لها ان تمضي باتجاه تحقيق أهدافها إلاّ حينما تجتمع القوى الأساسية والكبيرة من مكونات شعبنا لتضع مصالح الوطن الفلسطيني في أولى اهتماماتها وذلك لضمان عقد شراكة حقيقية بين كل الأطراف المعنية بقيادة الوطن، ولا بد لذلك الاجتماع ان يعمل ـ كما اسلفنا ـ على توسيع قاعدة فرص المشاركة بجميع أطياف شعبنا وقواهم الخيرة من اجل صياغة حلول واقعية ضمن المبادئ والأسس التي اشرنا اليها.
ومن المهم ان نؤكد على الإرادة الفلسطينية الوطنية الحرة في إيجاد المناخات الإصلاحية التي نحتاج اليها جميعاً، وهنا لابد من تأكيد ترحيبنا ايضاً بكل الجهود العربية والإقليمية والدولية ولاسيما جهود الدول العربية الشقيقة وعلى رأسهم مصر والأردن وقطر والسعودية، وجهود الدول الإسلامية العزيزة وعلى رأسهم تركيا، وجهود الدول الصديقة وعلى رأسهم روسيا وسويسرا وفرنسا، على ان تأتي هذه الجهود منسجمة مع هذه الرؤية ومع هذه المبادئ، ومحافظة على هذه الأوليات من اجل تحقيق الاستقرار السياسي والأمني في الوطن الفلسطيني ومن اجل دفع عملية البناء وإعادة الاعمار الى الأمام وفي كل البقاع والمناطق الفلسطينية، مع توفير الخدمات للمواطنين كي يعود وطننا لموقعه الطبيعي في المنطقة والعالم.
وفي جميع الاحوال، ما يحتاجه شعبنا اليوم هو الخروج من هذا النفق في الاتجاه السليم، فالكل يترقب، والكل يضع يده على قلبه، والكل يريد الاصلاح، لكن تحقيق هذا المطلب ينبغي أن لا يدخل البلاد في دوامة من المخاطر والصراعات والفوضى، لأن شعبنا لم يعود قادر على تحمّل المزيد من الخراب، حيث ينبغي أن تتم معالجة الأمر بحالة انضباط عالية، على أن يبقى الاصلاح والقضاء على الإنقسام هدفا أساسيا للجميع.
الخلاصة نحتاج أن يسير الوطن الفلسطيني في المسار السليم، وهذا محكوم بسلوك الكل الفلسطيني، وحرصه على سلامة هذا الوطن، وأهمية تحقيق الاصلاح، والحرص على مطالبات الشعب والجماهير، مع الابتعاد عن اساليب العنف بكل اشكاله اللفظية والمادية، واعتماد الحوار البنّاء ضمن الأطر القانونية، كون الوطن غير قادر على تحمل اعباء جديدة من الفوضى والخراب، فمسؤولية الطبقة السياسية وكبار القوم تستدعي الخروج بفلسطين من هذا الوضع الشائك والمعقد الى بر السلام بأقل ما يمكن من الخسائر.
اضف تعليق