لا شك في ان جميع العراقيين متفقون على ضرورة اجراء (تسوية) تحفظ ما تبقى من العراق كوطن وشعب وإقليم وتعيد الى هذا البلد هيبته ومكانته، ولا نشك في نية من يطرح المبادرات والتسويات ولا في وطنيته ورغبته في اعادة الامور الى نصابها بعدما وصل اليه حال هذا البلد، ولكن هل ان التسوية المطروحة أسست على فهم واضح وتشخيص دقيق للمشكلة وحجمها وابعادها وأطرافها؟
بالعودة الى اعادة تشكيل الدولة العراقية بعد عام 2003 وظروف وملابسات وضع اول دستور للعراق والجهات والاطراف الفاعلة التي وضعت الدستور، نرى ان العامل الأكثر تأثيرا في رسم ملامح الدستور الجديد، هو خلفية وتفكير أطراف العملية السياسية ومنطلقاتهم التي أسست من مخاوف موروثة وعدم الثقة بالآخر.
هواجس قادة الشيعة وتفكيرهم كان منصبا على الحيلولة دون تكرار الاقصاء والتنكيل والمقابر الجماعية وضرورة ان يكون تمثيلهم في الحكومات موازيا لثقلهم السكاني.
اما السنة كانت هواجسهم الخشية من تحميلهم أوزار النظام السابق وإبعادهم وتهميشهم من العملية السياسية.
وكذلك الحال بالنسبة للكورد وخوفهم من تكرار عمليات الانفال والمجازر التي ارتكبت بحقهم، في ظل هذه الأجواء تم إقرار دستور صمم لحماية حقوق المكونات بدلا من ان يكون المواطن وحقوق المواطنة هي الركيزة الاساسية والهدف في الدستور وبدلا من ان تكون وظيفة الدولة إسعاد المواطن أصبحت وظيفتها حماية المكون، هذا الحل كان مدعوما من الأمريكان ايضا، باعتبارهم كانوا رعاة العملية السياسية في العراق، بسبب عدم ثقتهم باي طرف من أطراف العملية السياسية، فالأكثرية الشيعية ربما تؤدي الى ميلهم الى ايران، وهذا لا يروق لهم ولحلفائهم في الخليج وإسرائيل، ومن المستحيل، في ظل هذه الأوضاع ان يعود السنة الى استلام الحكم، اضافة الى مخاوفهم من الكورد من إعلانهم لدولتهم المنشودة .
ومن هنا بدأت محاصصة المكونات وتغلغلت الى ادق تفاصيل الدولة وعملها ووزاراتها حتى شملت الجيش والشرطة والتعليم والتمثيل الدبلوماسي!
وكنتيجة طبيعية وصلت الى السلطة ائتلافات متكونة من عدد من الاحزاب تمثل تلك المكونات في مرافق الدولة ومؤسساتها، وشعارات معظمها كانت تتركز على مظالم المكون والسعي للدفاع عن حقوقهم وتخويف جمهور المكون من المستقبل ومن تكرار مآسي ما حصل لهم في العهد الماضي وكانت النتيجة القتال الطائفي عام 2006 وما بعدها
أطراف ائتلافات كل مكون بدأت تستشعر القوة وتمتلك المال والنفوذ والامكانيات التي جعل كل منها يظن ان له الاحقية في تمثيل المكون دون غيره، وان فيه مقومات تمثيل المكون دون غيره، الامر الذي أدى الى ظهور صراع في داخل المكون الواحد بين احزاب المكون الواحد والتنافس على تمثيل المكون، واهم أدوات صراعها كانت الشعارات ذات الطابع المتشدد والمؤكد على أحقية المكون في التسيّد.
وحقيقة الامر ان جميع تلك الشعارات كانت توهن كيان الدولة وتضعف الحس الوطني الذي تزعزع اصلا منذ تسعينيات القرن الماضي وتقدم مصلحة المكونات على مصلحة الدولة والمواطن هذه الشعارات كانت واضحة لدى السنة من خلال منصات المظاهرات أمثال (قادمون يا بغداد) وغيرها، وشعارات الاحزاب الشيعية كانت تهدف الى اضفاء الطابع الشيعي على الدولة باعتبارهم اغلبية سكانية ومنها مثلا التوسع في العطل في المناسبات الشيعية وتوظيف تلك المناسبات لأغراض سياسية اما الكورد فان رهانهم في استقطاب الجمهور كان الدولة الكوردية ووعدهم بإعلانها، وكانت نتيجة كل ذلك ظهور داعش واحتلالها لاكثر من ثلث العراق.
بالعودة الى موضوع نوع التسوية المطلوبة لتصحيح الامور وفِي وجهة نظرنا المتواضعة، تتوقف على نقطة انطلاقها.
اذا ما انطلقت التسوية من الدستور والعملية السياسية التي أنشأته، فتسوية واحدة لا تكفي، انما هناك حاجة فعلية الى عدة تسويات، لكل مكون تسوية، تسوية بين الأطراف الشيعية وتسوية بين الاحزاب السنية واُخرى بين الاحزاب الكوردية واتفاق كل مكون، فيما بينها، على الخطوط العامة والمشتركات التي لا خلاف عليها بين ابناء المكون وابعاد البرامج السياسية والشعارات الانتخابية عنها للحيلولة دون حدوث خلافات بشأنها ربما تؤدي الى اقتتال ونزاعات مسلحة بين ابناء المكون الواحد، اما بالنسبة الى العلاقة بين المكونات، فهي محكومة بالدستور ويلزم احترام المكونات الاخرى والإيمان بحقوقها في إطار عراق واحد وتحقيق موازنة معقولة لحقوق جميع المكونات كل حسب ثقله السكاني وبالشكل الذي يبث الاطمئنان لدى الجميع في العيش المشترك في إطار عراق موحد، وبعكسه فان البلد متجه نحو الانقسام، وأهون الشرين هو عراق متكون من أقاليم فيدرالية.
اما إذا كان هدف التسوية تحقيق دولة المواطنة فان المنطلق يكون من نقطة ما قبل الدستور، بإلغاء هذا الدستور او تعديله وبناء العلاقة بين ابناء الشعب على اساس المواطنة والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات (لا على اساس استحقاق المكونات وتكريس حقوقها على حساب الوطن والمواطن) والسعي لبناء العراق على انه بلد واحد لا فرق بين شماله وجنوبه وشرقه وغربه بحكم رشيد يستند الى القانون وتكون منافسة الاحزاب وفق برامج وطنية، لا قومية ولا دينية ولا طائفية، تتسابق برامجها الانتخابية فيما بينها على تقديم الخدمة للوطن والمواطن، ويقينا ان من يتبنى تسوية من هذا الطراز سيخلده التاريخ وينصب العراقيون له في كل مدينة نصب وتمثال.
اما اذا لم تتحقق التسوية فالسيناريو القاتم قادم لا محال، وكما ان المحاصصة جاءت بالطائفية، والمنافسة الحزبية- المكوناتية جاءت بداعش، فان الخشية من الحرب الأهلية واسعة النطاق بين فصائل الاحزاب في مناطق المكونات وفِي عموم العراق لها مبرراتها المنطقية وواردة جدا.
اضف تعليق