لا اقصدُ هنا بكتابةِ الهواةِ، فهؤلاء لمّا يبلغوا الحُلم بعدُ، حُلُمَ الكتابةِ، وانما اقصدُ من يظنّ انّهُ يتعامل مع القلم كمسؤوليةٍ على قاعدة قولِ الله تعالى {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}.
فهؤلاء على نوعين؛
الاوّل؛ هم المرتبطون بالسلطان بشكل او بآخر، والسلطانُ هنا قد يكونُ حاكماً او زعيماً او رمزاً او مموِّلاً، لا فرق، فهؤلاء يسيرون في خطٍّ مرسومٍ لهم سلفاً، تحدّده مصالح (السّلطان) او ما يمكن ان نطلق عليه صفة (وليّ النعمة) ولذلك فلهؤلاء خطوط حمراء كثيرة لا يقدر احدهُم على تجاوزها ابداً، والا فقد مصدر رزقه وحظوته عند السّلطان.
هذا النّوع من الكتاب عبارةً عن موظفين يكتبون فيستلمون، وما أكثرُهم، همُّهم ارضاء (السّلطان) أيّاً كانت هويته او اسمه او موقعه، ولذلك ترى مُهمّتُهم محصورةً بين واجبين؛ امّا المدحِ او القدحِ، مدحُ السّلطان والقَدْح بمعارضيه ليسَ الا.
ويذهب بعضُهم بعيداً بعض الشيء ليتحوّل الى بوق فنرى عادةً انّ [لكلّ سلطانٍ بوق] يشبهُهُ في التوجّهات ويطيعُهُ في التوجيهات ويسيرُ معهُ في نفس الاتّجاه، فهو تحت تصرّفه لا يتردد في تنفيذ اوامرِه ونواهيه.
لا يُستشاطُ غضباً اذا تعرّضت كرامةُ الوطن الى الاغتصابِ او كرامةُ المواطن الى الانتقاص، ولكنّك تراه يتصرّفُ كالمجنونِ اذا سَمِعَ اثنين يهمسانِ في اذن بعضهما في صحراء قاحلة يسألان عن معنى تصرف السلطان!.
يتصرفُ وكأنه بلا غيرةٍ اذا سمِع احدٌ يسبّ الله تعالى، ولكنه يشحذ قلمه على أشده فهو ابو الغيرة الذي ليس كمثلهِ احدٌ اذا سبَّ احدٌ السلطان.
هو متهيءٌ لاستخدام كلّ انواع الأسلحة اذا تعرّض القائد الضرورة والقائد الرمز لنقدٍ ما مهما كان بسيطاً وربما تافهاً، ولكنّه يدفن راْسه في التراب اذا تعرّض احدٌ للوطن!.
هذا النّوع لا ننتظرُ مِنْهُ ان يقدّم لنا رايهُ بحرّيةٍ او يبحث معنا عن حلٍّ لقضيةٍ من القضايا، او يقدم رؤية، ولا عتب ابداً لأنهم اخذوا بنصيحة ابن المقفع الذي خاطب من يفكّر بالعمل كاتباً عند السلطان بقوله؛ [لا تكوننَّ صُحبتك للملوك الا بعدَ رياضةٍ منكَ بنفسكَ على طاعتهم في المكروه عندَك وموافقتَهم فيما خالفكَ وتقدير الامور دون هواك والتّصديق لمقالتهم والتّزيين لرأيهم، وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساءوا وترك الانتحال لما فعلوا اذا أحسنوا].
وربما تذهب بعض الابواق الى ابعدِ من ذلك عندما تبذل قصارى جهدها من اجل بث ثقافة (الطاعة والاستبداد) او بمعنى آخر قيم الطاعة التي تنتهي الى الاستبداد، والتي أسّس لها الامويّون اول من أسس لها من خلال نظريات من قبيل الجبر والتفويض والقضاء والقدر بمفاهيمها التخديريّة التي تنشر الرعب في المجتمع وتصوير من يرفع راْسه في حظرة الحاكم او من يضعَ عينه في عينهِ او من ينتقدهُ او حتى يسأل عن سياساته مثلاً بمن تبوّأ مقعده في الدرك الأسفل من النار!.
هذه الثقافة التي قامت على نظرية (التّقميص) والتي تقول بان (السلطة) قميصٌ يُلبسُهُ الله تعالى من يشاء من عباده، فما معنى ان يعترض احدٌ على سلطان؟ الا يعني ذلك انّه يعترض على الله تعالى؟ وكلنا نتذكّر ما سمعناهُ من بعضهم كلّما أصرّوا على موقع ما قولهم (انه الواجب الشرعي المفروض عليّ)! اي انّهُ من الله عزّ وجلّ!.
انّ هذا النّوع لا تجدْ في كتاباتهِ حلاً.
الثّاني؛ هُمُ الذين يعبّرون عن رأيهم بحريّة، عندما يأخذون بالشروط التالية؛
الف؛ القراءة بحرّية فلا يفرضون على انفسِهم او يقبلون أية وصاية، سواء في اختيار نوعيّة الكتاب او هويّة الكاتب.
باء؛ يتعاملونَ مع المعلومة بحريّة من خلال التعامل العلمي والمنطقي الذي يستند على التثبّت والتّأن، فلا يتعاملون معها بانتقائية او بتعسّف.
جيم؛ يختارون الفكرة موضوع الكتابة بحريّة فيأخذون بنظر الاعتبار الظرف الزمكاني ليتأكّدوا ما اذا كانت الكتابة ستفي بالغرض وتحقق الهدف ام انها ستذهب ادراج الرياح لم ينتبه لها احدٌ اذا ما جاءت في غير زمانها وفي غير مكانها؟.
وَمِمَّا لا شكّ فيه فانّ حريّة التّعبير صعبة في زمن الارهاب الفكري والذي منشأهُ عادة إمّا التزمّت الديني والجهل والتعصّب الأعمى، والتي تنتشر في ظلّها الجماعات الظُّلامية، او الاستبداد السياسي او عبادة الشخصية وحالات التأليه للقائد الضرورة التي تسيطر في أوقات كثيرة على المجتمع.
ويزداد التعقيد وتزداد الخطورة على حرية التعبير اذا تجاوزت أدوات الارهاب الفكري من النظرية فقط كالتهجم والاتهام والسّب واغتيال الشخصية ونشر الشائعات والطعن بالولاء والاتهام بالخلفيات، الى الأسلحة المادية والتي تقف على راسها كواتم الصوت والعبوات الناسفة وما شابهها.
ولذلك فان حرية التعبير في بلداننا هي مهمة الشهداء الأحياء الذين استرخصوا كلّ غالٍ ونفيس فعرّضوا انفسهم وحياتهم قرباناً من اجل كلمة الحق التي يبذلون كل ما في وسعهم من اجل ان يعبّروا عنها بحرية وبلا خطوط حمراء مصطنعة يخلقها القدّيسون المزيفّون او وعاظ السلاطين او أبواق السّلطان والرمز والقائد الضرورة.
وبهذه المناسبة فانا احيّي هنا شهداء حرية التعبير خاصّة في العراق الّذين اصرّوا على ان يختاروا الحرية في التفكير والتعبير على اي شيء آخر سواء كان اغراءاً من نوع ما او تهديداً من نوع معيّن.
النّقطة المهمّة التي يجب ان ننتبه لها هنا هي؛ انَّ البعض يتعامل مع حرية التعبير كمدخل من مداخل الشّهرة، عندما يتصوّر انها حرية منفلتة تسمح له بالتشهير والتسقيط ونشر الغسيل بلا مسؤولية، فترى بعضهم يبداً بتطبيق حرية التعبير اول ما يبدأ مشواره مع الله تعالى او الدين، كفرصة ذهبية لتحقيق الشهرة والنجوميّة، على قاعدة (خالِف تُعرف) وهذا خطأ كبير يقع فيه كثيرون بل قد تكون جريمة يرتكبها بعض الجهلة من الكتاب، فحريّة التّعبير مسؤولية اخلاقية ومعرفية بل هي قمّة المسؤولية، يجب ان يستعدّ من يتحمّلها ان يجيب على ايِّ سؤالٍ قد يتعرض له من قبل الرأي العام مثلا.
انَّ حرية التعبير اداة من أدوات التغيير والإصلاح وليست من أدوات التشهير لتحقيق الشّهرة والنجوميّة.
انّ حرية التّعبير لا تعني انك تتصرف بلا مسؤولية، فتتعامل مع المعلومة بلا أبالية وتحلّل الامور بلا ابالية، ابداً، انها شرف الكاتب والتعبير الحقيقي عن شخصيّته كما انها الميزان الذي يُقاس به اعتبار الكاتب في الوسط الثقافي فضلا عن المجتمع.
اضف تعليق