q

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (سورة الشمس).

الجميع يفكر بحل الازمات والمشاكل التي تنغّص حياتنا، فيما يدّعي البعض من المتنفذين في أجهزة الحكم، من ساسة وقادة ووجهاء، قدرتهم على إيجاد الحلول، وأنهم "جزء من الحل" وأنهم الأقدر على إخراج البلاد والعباد من عنق الزجاجة، حيث تتضافر الازمات الاقتصادية مع نظيرتها الامنية والسياسية ايضاً، ملقية باسقاطاتها السلبية على الحياة الاجتماعية للموطن البسيط، الذي وجد انه يفقد راحته واستقراره حتى بين جدران بيته.

الناظر من بعيد يخال العراق بلداً مسكوناً بأزمات ومشاكل لا يمكنه الخلاص منهما، بيد أن حقائق انسانية على الارض تشير الى أن كل هذه الجعجعة ليست سوى دوامة أقحم فيها الشعب العراقي عنوة، وإلا فان بلاد عديدة في العالم تحسدنا على ما نمتلكه من فرص، ليس فقط للخلاص، وإنما للنمو والتطور والرقي، بما يعني أن المشاكل ليست حقيقية، كما لو أن بلداً قابع وسط مياه المحيط يعزّ عليه الماء المعذب لإرواء الانسان و ايضاً الارض بهدف الزراعة وإنعاش الاقتصاد، او بلد جمهوره يشكو الأمية السياسية، فتتوالي عليه الانقلابات العسكرية وتتلاقفه ألسنة الحرب، وهكذا؛ سائر عوامل النجاح.

لماذا غياب الحلول؟

يقول الحكماء: فهم السؤال، نصف الجواب، كما يقال اليوم: معرفة المرض نصف العلاج، ولهذا دلالة على أن المشاكل، كما أن لها اسباب وعلل خارجية، لها ايضاً مثلها داخلية في نفس الانسان الذي يعترك المشكلة، بيد أنه ينتظر من يحلّها نيابة عنه بأقل التكاليف دون بذل جهد فكري أو عضلي أو أي شيء آخر.

وهذا ليس ما نشهده في العراق فقط، وإنما هو سائد في العديد من البلاد الاسلامية، لذا نجد النظريات والافكار والمشاريع تقفز من هنا وهناك، بعد اندلاع الحروب الاهلية والاضطرابات السياسية والتدهور في الحياة العامة، بما يغطي بغمامته السوداء على جميع ما يُقال من هذا وذاك، لأن لم تكن هنالك رؤية مسبقة نحو الأفق البعيد تساعد على صياغة واقع سليم خالٍ – نسبة ما- من الانحرافات والاخطاء.

ان الواقع الجميل الذي يتمناه كل انسان في حياته، قطعاً يكون من صنع يده، وهذا ما تسالم عليه الفلاسفة والمفكرين، لكنهم؛ افترقوا على الكيفية وآلية صنع هذا الواقع، فالمعروف أن المناهج المطروحة عبر التاريخ وحتى اليوم لم تحقق للانسان السعادة والاستقرار المأمول، وما كانت تحفل به النظريات القديمة والحديثة، الامر يدفعنا اليوم وقبل غدٍ، لأن نسلط الضوء على جملة من الحقائق في حياة الانسان ووجوده، من خلاله يمكن تلمس السبيل للخروج من ظلمته، ومن ثم يتقن فن التعامل مع مشاكل الحياة مهما كبرت وتعقدت:

أولاً: لا وجود لشيء أمام الانسان بعنوان "الحتمية"، فهو ليس جوهرة لامعة، كما ليس بصخرة صمّاء، كما ذهب الى ذلكما التصورين، عدد من الفلاسفة، إنما يضم بين جنبيه؛ دوافع الخير ودوافع الشر، وحسب التعبير القرآني؛ النفس اللوامة، والنفس الأمارة بالسوء.

ثانياً: هنالك محفزات طبيعية حقّة وواقعية بذات القوة التي تكون العوامل الحضارية صحيحة و واقعية، فالعصبية الى جانب الإيثار، والشهوة الى جانب العفة، والرياء الى جانب الاخلاص، وهكذا، فان هذه الثنائيات تمثل أمور واقعية معترف بها.

ثالثاً: ان وجود التربية والاخلاق والعقوبات والضغوط وغيرها من عوامل التأثير الايجابي، ضرورية كلها لمساعدة الانسان على صياغة التوجه الايجابي وابتعاده عن التوجه السلبي، وهذا ينجح بعد الاخذ بعين الاعتبار واقعية "الحالة الاعتدائية" في النفس وأثر الوراثة والهوى في تسيير هذا التوجه السلبي.

رابعاً: ارتكب بعض الفلاسفة خطأ في تصورهم؛ أن النفس الذي تتبع الخير لا يمكن أن تكون مصدر الشر، وكذلك العكس، غافلين عن أن طبيعة النفس الشريرة لا تنافي هبة الله لها موهبة خيّرة، كما كانت طبيعة الانسان الموت، فوهب الله لها الحياة، كما كانت ذاته العدم، فاعطاه الله الخلق والوجود.

هذه الحقائق تمثل نقطة ارتكاز لنهضة إصلاحية من باطن النفس الانسانية انطلاقاً من قاعدة الثنائية في الكائنات وفي النفس البشرية ايضاً، وهذا ما يدلنا عليه القرآن الكريم في سورة الشمس، عندما أحكم الربط بين عاقبة أقوام بنوا حضارات وحققوا انجازات باهرة، وبين تغليب الجانب السلبي والشرير للنفس على نقيضها الايجابي والخيّر.

ويحدثنا القرآن الكريم عن الطغيان الذي استبدّ بقوم ثمود، فاتجهوا بانفسهم الى حتفهم في قصتهم المعروفة مع الناقة وفصيلها ومعجزة النبي صالح، عليه السلام، وكيف أنهم عقروها و تخلصوا منها خشية استمرار وجود المعجزة الإلهية مما يهدد مستقبل الكفر والشرك في مجتمعهم، وكان المنعطف الخطير والمصيري في هذا الاختبار، هي النفس الانسانية، كما في حاضرة في جميع الاختبارات الالهية لسائر الاقوام، والحضارات.

ولعل في هذا عبرة لنا، بأن نعرف أن تجاهل عامل النفس الانسانية في التأثير على حياة الفرد والمجتمع والامة، لا يؤدي الى استمرار الازمات وتعقيدها بين المجتمع والدولة في وقتنا الحاضر، إنما يؤدي الى كوارث مدمرة تقضي على أمم وحضارات مثل عاد وثمود والفراعنة وغيرهم، ممن بذلوا وأنتجوا وابدعوا، ولكن لم يبق من منجزاتهم سوى الاطلال والمعالم الأثرية الخالية من الروح، فما بالنا نحن في العراق وغيره من البلاد التي يفكر فيها الانسان بكل شيء إلا بنفسه التي بين جنبيه، فهو يدين ويحاسب ويراقب كل شيء سوى نفسه مهما جنت ودفعته الى المكاره والكوارث.

والقرآن الكريم يكشف هذه الحقيقة الباهرة، بأن النفس الانسانية تعرف مكمن الخطأ والانحراف الذي يعبر عنه بـ "الفجور"، وهل – مثلاً- يعتقد الحكام في بلادنا في السنوات الماضية، ومنهم صدام، أن خوضه الحروب الكارثية تجلب له وللعراق المنفعة والتقدم؟ وهذا ينسحب على كل زمان ومكان، وعلى جميع افراد المجتمع. وإذن؛ بالقدر الذي يكون بامكان الانسان ترويض النفس وتطويعها لتغليب جانب الخير والحق على الجانب المغاير، يسهل عليه تجاوز أي مشكلة في حياته، بل واحياناً يكون بامكانه تحويل المشكلة الى فرصة للإصلاح ثم الابداع، بالاستفادة من التجارب والعبر، كما شهدنا ذلك في أمم وشعوب خاضت حروب ضروس، وكوارث طبيعية مدمرة، بيد أنها جعلت من كل ذلك مرقاة للنمو والتطور، وليس الانكفاء على النفس بمزيد من تكريس مشاعر الهزيمة والاحباط واليأس من كل شيء.

هنا؛ يتضح كما نحن بعيدون عن جوهر المشكلة التي نعيشها، ونغوص في لجج السياسة والامن والاقتصاد وما يرافقها من إثارات اعلامية وتهويل وتضليل وتغييب فاحش للحقائق مما يدخل في روع البعض او الكثير، بأن لا مفر من ازمات متلاحقة ولابد من التعايش معها! بدءاً من أصغر مشكلة في حياتنا الخاصة والعامة، وحتى أكبر مشكلة في الدولة، في حين امامنا فرصة استثمار الموهبة الإلهية العظيمة بإلهام النفس "تقواها" كما ألهمها "فجورها"، يبقى الاختيار للإنسان، ومن ثمّ "ولات حين مندم".

اضف تعليق