"يجب ، إذن ، السعي إلى التحرر من هذه اللغة. لا السعي إليه، فهذا مستحيل من دون أن ننسى تاريخنا. وإنما الحلم بذلك"1
أثار منح المؤلف الأمريكي بوب ديلان جائزة نوبل للآداب لسنة 2016 الكثير من التعليقات والردود من طرف عدد من الكتاب تراوحت بين الاستغراب والانتقاد من جهة وبين الترحيب والثناء من جهة أخرى.
يمكن منذ الوهلة الأولى الإقرار بنهاية الكتاب وخسوف شمس الكتابة في عصر الصورة ومجتمع المشهد وتراجع القدرة التأثيرية للكتاب في ذهنية القراء وهجران الناس مدارج المطالعة والابتعاد عن زيارة الصفحات وفتح الأوراق وخسارة الآداب والعلوم الانسانية والشعر والفلسفة لمعركتهم من أجل الوجود.
في المقابل تزايد دور الصورة والأغنية والفن وصار المطرب هو الذي يتصدر المسرح الاجتماعي وافتكت الموسيقي المكانة من الكاتب وتم تعويض الأدب بالفيلم والسهرة الاحتفالية ولقاء الفنان المباشر بالجمهور وكسب رواد الفن مابعد الحديث معركتهم من أجل اثبات ذواتهم وانتزعوا القيادة الانشائية.
ربما يكون تتويج بوب ديلان يتنزل في هذا الإطار الذي خرج فيه الإبداع الجمالي من باراديغم احترام الذوق الرفيع واستقبل باراديغم جديد يرضي الرأي العام ويتفق مع الانفعالات والعواطف ويلوح إلى أهمية التقليعات الفنية المعاصرة ودورها التحريضي وقدرتها على الاستقطاب والتعبئة والاستدراج والاستمالة.
لكن تبعات هذا الرأي خطيرة وتداعيات القول بذلك مزلزلة ومن ذلك زوال الامتياز الذي حاز عليه النص والمقال والرواية والقصة والكتاب والمؤلف والتدوينة وذهاب ريح هواية أو حرفة العديد من المغامرين.
من جهة أخرى ظهر ٍرأي ثان يعتبر هذا التتويج هو مجرد صناعة للمباغتة الصحفية وممارسة التشويق والخروج عن المألوف والإبحار في المجهول وإنتاج الطرافة وتشجيع الموهبة وتوسيع دوائر الإبداع والارتقاء بالذائقة الأدبية إلى تخوم مغايرة وفتح مغاليق النثر والحكاية والتخييل على عوالم غير معهودة.
لقد بدأ عصر الفيديو سفير يفرض منطقه الاستقطابي التشميلي وأعلن عن غزوه لمجالات الثقافة والفكر بما أن الكتاب نفسه صارا مرئيا ومسموعا وأصبح متلفزا وكذلك مصورا في شريط سينيمائي وفق تقنيات عالية الدقة وفي فضاءات تتكون من أكثر من بعد وتعتمد على تقاطع الحركة واللون والصوت والحياة.
يبدو أن الكتاب التقليدية لم تعد قادرة على التعبير عن صوت المرء وهو يكلم نفسه ويصغي إلى العالم ويتفاعل مع الآخرين ولم تسعفه بطريقة جدية من الفعل التواصلي مع المجموعة التي يتقاسم معها المعمورة ولذلك قرر الفرار من المدون المطبوع إلى الومضة الإشهارية واللقطة المصورة واللحن المقتضب واللغة المتداولة والوجبة الثقافية السريعة واقترب من الذوق الهابط وحملة تسليع كل شيء والمتاجرة بالجميل، وربما يكون بهذا الصنيع قد اختار تلهية ذاته المعذبة بالفراغ وإضاعة الوقت الزائد عن لزومه بالفرجة وانخرط في لعبة التعمية والإلهاء وتجاوز حدود لياقته الذوقية ولامس الرداءة والانحطاط ونسي ما كان قد تعلمه من الطبيعة والتاريخ من محاكاة والهام والحاجة الماسة إلى التهذيب.
بيد أن مجموعة من التساؤلات يمكن إثارتها بخصوص هذا الأمر الجلل: هل هي بداية النهاية للأدب بالمعنى الكلاسيكي؟ ولماذا لا يكون بالفعل التأليف السردي يحتاج إلى إعادة تشكيل؟ أليس نطاق الابتكار الدلالي لدى البشر تجاوز كل الموازنات التقليدية؟ ألا تقتضي الثورة الرقمية القيام بإعادة صياغة فضاء المؤلف؟ والى أي مدى ينسجم دور المؤلف الموسيقي مع الوظيفة التقليدية التي كان يؤديها الكاتب؟ وبأي معنى يقدر المطرب والفنان والممثل أن يملأ الفراغ الرهيب الذي يتركه تغييب الأديب والكاتب والناقد؟
اضف تعليق