اغلب شعوب الربيع العربي كان عليها دفع ضريبة قاسية نتيجة لما حدث من انهيارات مدوية للأنظمة المستبدة التي حكمت هذه الشعوب، وما كشفته من خفايا تلك الانظمة، وربما كان من ابرز تلك التكاليف المدفوعة، هو المقاومة الكبيرة التي ابدتها "الدولة العميقة" او "الفلول" التي كانت تقف خلف المحافظة على النظام القائم والحاكم المستبد، ليس حبا وتقديرا له وانما من اجل المحافظة على مصالحها الخاصة، التي بنتها عبر سنوات طويلة وقنوات متشعبة وواسعة من المصالح والعلاقات داخل المؤسسات والاجهزة المختلفة للدولة، والحديث هنا لا يعني المقارنة او المقاربة للصراع الحاصل بين الاخوان المسلمين والمؤسسة العسكرية في مصر، وما يجري في غيرها من الدول، اذ ان لكل دولة مميزاتها الخاصة التي تتفرد بها عن غيرها من الدول، لكن بالمجمل فان اغلب دول العالم تتشارك في وجود ابواب خلفية "غير معلنة"، تتخذ العديد من الاشكال (احزاب، جماعات ضغط، قوة اقتصادية، مؤسسة عسكرية...الخ)، قد تتدخل، وقت الحاجة، لتغيير العديد من المسارات في حال شعرت ان هذه التوجهات بالضد من مصالحها ونفوذها القوي داخل الدولة.
ما يجري ويجري في مصر، قد لا يخرج عن هذا السياق العام، اما في ذكر التفاصيل، فالمتابعون والباحثون، اختلفوا بوصف الاحداث في مصر قبل الثورة الاولى وما بعدها، وحتى قبل الثورة الثانية وما بعدها، وتنوعت تحليلات الكتاب في وصف العلاقة التي جمعت المؤسسة العسكرية (بوصفها الجهة الراعية والقوية لمعظم الاحداث التي وقعت بعد ربيع مصر) بالإخوان المسلمين (وهم الطرف الثاني في معادلة الاحداث المصرية)، فمصطلح الانقلاب ضد الشرعية وعدم وجود ثورة من الاساس والمؤامرة الخارجية التي حيكت لمصر، كلها شواهد على هذه التحليلات والاستنتاجات، والتي اوصلت البعض الى تبني مسألة "الهوية المفقودة" للشعب المصري، في خضم هذه التطورات، سيما وان طريقة تأييد الشعب لثورة 25 يناير 2011 والتأييد لما تلاها من احداث في 30 يونيو، والتي وصفت على انها تصحيح للثورة الاولى، قد وضع المؤيدين والمعارضين في مفارقة البحث عن الديمقراطية بين الثورتين، او السبب وراء قيامهما.
طبعا الصراع بين المؤسسة العسكرية والاخوان، صراع ليس بالجديد، وهو صراع لن ينتهي في الامد القريب، وغالبا ما كانت الدولة المدعومة بالمؤسسة العسكرية تستخدم القوة المفرطة في القضاء على جميع تحركاتهم وتكافح انتشار افكارهم، التي توصف بالتنظير للإسلام السياسي، وهو بمعناه الحقيقي، منافسة المتمسكين بالسلطة، وربما الوصول الى السلطة بالوسائل الديمقراطية (وهو ما حدث عندما وصل مرسي الى منصب الرئيس لأول مرة في تاريخ الاخوان)، او غيرها من الوسائل غير الديمقراطية، وكان للتنافس بين الطرفين (الاخوان والعسكر) تاريخيا ما يعزز وجودهما في الساحة المصرية من خلال:
1. اعتماد المؤسسة العسكرية على ارثها التاريخي في الحفاظ على امن واستقرار البلاد في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، وهو ارث قرن المؤسسة العسكرية "بالهوية الوطنية"، التي نالت احترام وتقدير اغلب شرائح المجتمع المصري.
2. اعتماد الاخوان المسلمين على الهوية الاسلامية والتدين، للغالبية الكادحة للشعب المصري، في كسب المقبولية والتقدير، اضافة الى اعتمادها على نظام اقتصادي وخيري موجه للفقراء المتدينين جعل منها احزاب غير تقليدية.
وبالتالي فان لكل جهة مصادر قوة (كما لها نقاط ضعف)، جعلت الصراع حول السلطة بين هاتين المؤسستين، صراع اشبه "بالوجودي"، فلا يمكن ان نتصور وجود مؤسسة عسكرية قوية قائمة بذاتها في ظل نظام اخواني، والعكس صحيح، وقد حاول المتظاهرين من الذين يمثلون الحركات والتوجهات العلمانية التضامن مع الاخوان والخروج بمظاهرات رافضة لما قام به "السيسي"، ليس حبا بالإخوان او لتوجهاتهم الدينية، وانما لرفض فكرة العودة الى المربع الاول من حكم مصر تحت قيادات قديمة او "الابواب الخلفية" للنظام، ربما من دون ان يدركوا جيدا ان مسالة اقاله "مرسي" واعتبار الاخوان منظمة ارهابية، ومعاقبة حتى المتظاهرين الذين لا ينتمون للإخوان، كان يمثل نقطة البداية للقضاء على خطر حقيقي يهدد وجود المؤسسة العسكرية.
بالمقابل فان الاخوان المسلمون لديهم طرقهم الخاصة في الرد على المنافس، وهي ليست كلها طرق ديمقراطية، فالعنف والتطرف واللجوء للقوة، موجود في ادبياتهم الدينية، ما يعني ان الصراع قد يشكل خطرا حقيقيا على مصر وهيبتها كدولة مؤثرة في وسطها الاقليمي، ويؤثر بصورة مباشرة على اقتصادها المتأثر اصلا بتداعيات الربيع العربي وما تلاه من احداث سياسية وامنية، ولا تبرز، حتى اللحظة اشارات من الطرفين على وجود تفاهمات او طرق حوار غير مباشرة لإنهاء الازمة (التي قد تنعكس على مستقبل مصر) من اجل مصالح البلاد العليا، وهو امر قد تتدخل فيه وساطات دولية او ضغط دولي، وان كان مستبعدا حتى اللحظة.
اضف تعليق