الأردن لن يسقط سهواً كما يريد البعض ويتمنى، والأردنيون حريصون على بقاء وطنهم سالماً، وبقاء أوضاعه ضمن الحدود المطلوبة والفاعلة من أجل دعم مجتمع الاستقرار والتعاضد، ولكن يبدو أن البعض لا يريد ذلك سواء عن قصد أو غباء أو لؤم وأنانية، وهنا مكمن الخطر، الجميع يعلم أن أكبر النيران يسببها عود ثقاب صغير جداً، وهذا أمر لا يريد الأردنيون أن يصيبهم في غفلة من أمرهم. ومن هنا سوف ننطلق في محاولة جدية ورصينة لاكتشاف بعض مكامن الخطر وتحديدها وتعريفها.
الاستقطاب الديني أو المذهبي هي سمة العقدين الأخيرين وهي التي صبغت الحياة السياسية في دول الإقليم بألوانها الدموية، والأردن ليس بعيداً عن هذا الـواقع الجديد المرير. فالعمل الجدي والمثابر مطلوبين من أجل تفادي حالة إستقطاب ديني إسلامي مسيحي آخِذَة الآن في التفاقم في الأردن، وهذا أمر مصيري كون الاستقطـاب المبني على التشدد والإقصاء هو البديل السيء للمواطنة المتكافئة وللإندماج المبني على التسامح والمشاركة والتآلف الوطني، وفقدان القدرة على الدفع باتجاه مجتمع متسامح متكافل هي مؤشر على بداية تفكك المجتمع وتحوله إلى طوائف ومذاهب وأعراق.
هنالك الآن حالة متفاقمة ومشروعة من التوجس والقلق والخوف بين أوساط الأردنيين المسيحيين أساسها السلوك العام والوحشي لتنظيمات أصولية دموية مثل داعش واستهدافها المواطنين المسيحيين في العراق ومن ثم سوريا، مما جعل معظم الاردنيين المسيحيين يشعرون بقلق من المستقبل ومن إمكانية تعرضهم لمثل ذلك الاضطهاد فيما لو تمكن أولئك الأصوليين من مد نفوذهم داخل الأردن. خوف الأردنيين المسيحيين ليس من الإسلام أو المسلمين بل من السلوك الدموي لبعض التنظيمات التي تتدثر بالإسلام الأصولي وتستهدف المواطنين المسلمين المعتدلين الذين لا يتفقوا مع رؤيتها بالقدر الذي تستهدف فيه غير المسلمين.
النظام الأردني قد يكون مسؤولا عن الكثير من المثالب والمآخذ والمآسي والأخطاء ولكن الاستقطاب الديني ليس أحدها. فالسلوك التاريخي لهذا النظام كان بعيداً عن العناوين الدينية الاقصائية حيث اعتبر الهاشميون أنفسُهُم مظلةً دينيةً جامعة تجاوزت في بعض الأحيان حدود الأردن باعتبار ذلك الدور أساس شرعيتهم السياسية. وقد دفع هذا الأمر حكومات أردنية متعاقبة على الامساك بالملف الديني بتوازن ملحوظ يهدف الى طمأنة الأقليات. ولكن ومع ذلك فقد وقع المحظور لأن التطرف كالأفعى تَزحف عادة دون ضجة أو جَلَبَة إلى أن تقوم بلدغتها المميتة.
المشكلة أن إهتمام النظام الأردني كان منصبّاً في معظم الأحيان على الناحية الأمنية وعلى الحفاظ على أمن النظام من الأخطار المحيطة به والتي لم يكن التَزَمُّـتُ الدينيُ أحدها. وبحكم العلاقة التاريخية بين النظام وحركة الإخوان المسلمين، واستفحال النـفوذ السـعـودي الـوهابـي المستند إلى السطوة المالية، فقد غَفِلَ النظام أو تَغافَل عن مراقبة المد الأصولي الإسلامي داخل المجتمع الأردني وخصوصاً في وزارة التربية والتعليم وضمن مناهج التعليم بمراحله المختلفة بل وجهاز التدريس نفسه، علماً أن ذلك الاستفحال كان دَعَوياً واجتماعياً مع نزعة خفيفة نحو الإقصائية ولم يكن عنيفاً أو مسلحاً أو دموياً.
وهكذا تم غرس أسس التزمتِّ الديني في نفوس الأجيال الأردنية الجديدة من خلال العبث بعقولهم بواسطة مناهج الدراسة المدرسية والتي تم إعادة صياغتها وتوجيهها بشكل ذكي وتدريجي تحت إشراف بعض الوزراء والمسؤولين الإسلاميين السابقين. وقد رافق ذلك نمو تدريجي متواصل للدور الاجتماعي والفكري والعقائدي لحركة الاخوان المسلمين وتعزيز مواردها المالية مما جعل من تنامي دورها السياسي قضية وقت وأمراً محتوماً، في حين تغاضت الدولة عن ذلك النمو المطرد بإعتبار أن حركة الإخوان المسلمين كانت في ذلك الوقت حليفةً للدولة وأنها بذلك لا تشكل أي خطر عليها.
ولكن مع نمو الإرهاب الديني المسلح والدموي وامتداد دوره الإقليمي ليشمل عدة دول عربية وغير عربية، وتنامي هذا الدور ليصبح ظاهرة مؤثرة على مجرى الصراعات الإقليمية و الداخلية للعديد من الدول العربية ومنها المجاورة للأردن مثل العراق و سوريا ولبنان، إنتبه النظام الأردني لخطورة ما يجري على أمنه وإستقراره ومستقبل نظام الحكم فيه وأصبح من الضروري وضع حدٍّ لتلك الظاهرة من جذورها، مما أدى إلى إنقضاضه على حركة الاخوان المسلمين في الأردن ومصادرة موجوداتها وتجفيف مواردها وفِعْلِ كل ما يمكن فِعْلَهُ لتفتيتها والحد من نفوذها قدرتها على استقطاب مؤيدين من الأجيال الجديدة. ولكن ماذا عن تلك الأجيال التي تم اخضاعها لعملية غسيل دماغ وتم استقطابها لتصبح إمتداداً لفكر ونشاط حركة الإخوان المسلمين حتى وإن لم يكن بعضها عضواً منظماً في تلك الحركة؟
إن إعادة تأهيل تلك الأجيال هي جزء من المسؤولية العامة للدولة ولمؤسسات المجتمع المدني وللمؤسسات الدينية المعتدلة، كما أن مسؤولية تثقيف الأجيال الأردنية بنهج بعيد عن الإستقطاب والإقصاء هو من مسؤولية الدولة أيضاً. والحل لا يكون بإعطاء هذه المسؤولية للعناصر المناهضة للنهج المتزمت لأن الهدف ليس الانتقام بل إعادة خلق التوازن، وهذا يتطلب إعطاء مسؤولية إعادة تقييم المناهج الدراسية لمجموعة من التربويين القادرين على إعادة تعريف تلك المناهج بشكل متوازن يعيد الامور الى نصابها السليم ولا يحابي أحداً على حساب أحد ولا يُقْصي أحداً على حساب الآخر. ولكن هذا المسار قد لا يكون كافياً. فالخطورة قد لا تكون محصورة بالنص لكن أيضاً في القائمين على تدريس النصوص والذين قد يقوموا بتغييرها أو التلاعب بها أو تفسيرها بما يناسب تفكيرهم العقائدي أو الديني خصوصاً وأن جهاز التعليم في الأردن مخترق بشكل واسع من الإتجاه الديني منذ أكثر من أربعة عقود.
إن مسؤولية الدولة في محاربة التطرف والإرهاب هي مسؤولية شاملة، ولا تقتصر على الشق الأمني. وهنا يُفترض بالدولة أن تُعطي مثالاً ونموذجاً على كيفية التعامل مع الرأي الآخر بأسلوب ديموقراطي سلمي وأن تُوَفِرْ القنوات والأدوات اللازمة لجعل ذلك ممكناً، وهذا الأمر وإن بدى للبعض بأنه مرتبطٌ بالمسار الديموقراطي وتراثه، إلا أنه في حقيقته جزأً من الإستحقاق الدستوري المُلزم للنظام والحكومة بمؤسساتها المختلفة وكذلك للشعب بأطيافه المختلفة. لقد قًدّمَتْ الدولة الاردنية سابقة خطيرة للمتطرفين في عدم إحترام الرأي الآخر والتعامل معه بإعتباره عدواً وإغلاق قنوات التعبير السلمي أمامه. وهكذا فشل الحكم في الاردن في تقديم سابقة وفي تأسيس نهج إحترام الرأي الآخر وحل الخلافات الفكرية والمبدئية بالطرق الديموقراطية واعتماد لغة الحوار الديموقراطي وسيلة لذلك، والحُكْم بذلك خَالَفَ حتى الدستور الأردني نفسه الذي كَفِلَ تلك الحقوق.
إن تنامي التزمت الأصولي بين أوساط الشباب والنزعة إلى النمطية في السلوك والملبس كوسيلة للتعبير عن ذلك الإنتماء قد خلق جواً ضاغطاً وقَلَقَاً من المستقبل ومن إحتمال تطور ذلك التزمت الأصولي إلى تبني العقيدة الإقصائية الدموية كوسيلة للتعبير عن الخلاف العقائدي أو الإختلاف الديني. وجاءت حادثة إغتيال ناهض حتّر لِتُحَوِّل تلك التخوفات إلى أخطار حقيقية بالنسبة لمعظم المواطنين الأردنيين المسيحيين وكذلك المسلمين المعتدلين. وهكذا أصبحت مسؤولية الدولة واضحة من ناحية إتخاذ الإجراءات اللازمة والضرورية لطمئنة كافة المواطنين من خلال وضع حد لتفاقم التوجه نحو التزمت الديني والتطرف، دون أن يعني ذلك المساس بالإسلام كدين سَمِحْ، بالإضافة إلى فتح قنوات الحوار المباشر والصريح بين مكونات المجتمع الأردني لتبادل الآراء والأفكار بين مختلف الأطراف وطرح مخاوفهم أمام بعضهم البعض بشكل علني وصريح. إن الحوار الديموقراطي الصريح خصوصاً بين أوساط القيادات الفكرية والشعبية هي المدخل الأمثل لخلق برنامج وطني عام يستند إلى أسس وطنية مشتركة وإلى إحترام حرية الرأي والتعبير السلمي عن الخلافات والإختلافات.
إن تأكيد أولوية المواطنة المتكافئة داخل المجتمع الأردني وفتح قنوات الحوار الديموقراطي المباشر بين أطرافه المختلفة هو أمر في غاية الأهمية ويجب أن يحظى بالأولوية المطلقة بإعتباره الوسيلة الأهم لإعـادة التوازن والاستقرار المطلوبين للمحافظة على السلم الاجتماعي وخلق قناعة عامة بأهمية وضرورة قبول المواطنة المتكافئـة كأسـاس لبنية المجتمـع والدولـة دون أي تميـيز أو مفاضـلة لأي سبـب كان، وأنه لا يحق لأي فرد أو فئة إقصاء فئة أخرى من الشعب على أسس طائفية أو دينية أو مذهبية أو عرقية.
اضف تعليق