تبدأُ المشكلة عندما؛
ألف؛ يحتكرُ المرء الحقيقة، سواء السياسية منها او المنهجيّة او العقدّية او اية حقيقة اخرى، فلا يرى طريقاً للجنّة الا من تحتِ عباءته، ولا يسلم على دين الاخرين الا باتّباع سُننه.
باء؛ يبذل كلّ جهده لفرضِها على الاخرين، بالسيف مثلاً او بالتهمة والتسقيط واغتيال الشخصيّة، او بأي شيء آخر، خاصة اذا كان مبسوط اليد وصاحب سلطة سياسية مطلقة.
وانما يرتكب الارهابيون جرائمهم بحقّ الناس لفرض أجنداتهم ومعتقداتهم رغما عن انفهم، بعد ان حصروا الطريق الى الجنة من خلالهم فقط!.
جيم؛ وبين الألف والباء يبدأ حملة تفتيش لعقائد الناس على طريق محاكم التّفتيش التي انتشرت في أوربا في القرون ألوسطى.
ولعلّ من أخطر أدوات هذه الحملة طرح ما أُسميّه بالأسئلة الإرهابيّة التي تحاصر الناس بين خيارين لا ثالث لهما، على قاعدة (مٓنْ لم يكنْ معنا فهو علينا او ضدّنا) ولقد انتشرت مثل هذه الأسئلة الإرهابية وهذه الطريقة في تاريخنا بشكل مُرعب كما هو الامر مع ما عُرِف بمحنة خلق القرآن.
يُروى ان زبوناً ذهب الى الحلّاق ايام (المستبدّة والمشروطة) في ايران وقد انتشر الذّبح والقتل على الهويّة بين أنصار المجموعتين في قصص مروّعة معروفة تم على اثرها إعدام الفقيه الشهيد اية الله فضل الله نوري، وبينما هو تحت موس الحلاق الذي وصل الى أسفل ذِقنه، بادرهُ بالسؤال عمّا اذا كان من أنصار المستبدة او المشروطة؟ تحير الزبون، فان قال انّه من أنصار المستبدّة فقد يكون الحلاق من أنصار المشروطة فينتقم منه بجرة موس واحدة يمررها على لوزته، وإذا قال له العكس فقد يخالفه راي الحلاق، فيفعل الشيء نفسه، فأجابه بالقول؛
سيدي الحلّاق؛ انا لا من أنصار هؤلاء ولا من أنصار هؤلاء، انا صاحبُ عيالٍ، لي زوجةٌ وأطفال!!!.
انّ التفتيش في عقائد الناس، وعلى مختلف الاصعدة، بطريقة طرح الأسئلة الإرهابية، منهجيّة خطيرة جداً بدأت تنتشر في صفوفنا بشكلٍ مُلفت للنظّر، وهي، كمنهجية، لا تقتصر على التكفيريّين من اتباع الحزب الوهابي المدعوم من نظام القبيلة الفاسد الحاكم في الجزيرة العربية الذي يكفّر الناس ويتّهمهم بعقائدهم ويشكّك في إيمانهم، وانما قد نصاب بها نحن من حيث نشعر او لا نشعر، ولعلّ ما يُنتشر اليوم في الكثير من مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي ينبّئ الى استفحال خطر هذه المنهجيّة، فلقد انتشرت ظاهرة الأسئلة الإرهابيّة في هذه المجموعات في إطار الدائرة الواحدة، فانت مُتّهم اذا فاتك تعليق، وانت مُتّهم اذا لم تُجب على تساؤل، وانت ُمتّهم اذا لم يفهم احدُهم قصدك، وانت مُتّهم اذا جاءت فكرتك متقاطعة مع فكرة احدهم، وانت مُتّهم حتى اذا سكتّ عن الإدلاء برأيك! فالسّكوتُ يُثيرُ الرّيبة والشّك وألف علامةِ استفهام!.
قيلَ ان موكب الطاغية الحجاج بن يوسف الثقافي مرّ من امامِ رجل، فبادر الاخير بالقول وبصوت مسموع {لا اله الا الله} فأمر الطاغية إحضاره وضرب عنقه! فسال المسكين عن السبب، وانه لم يقلْ اكثر من انه وحّد الله تعالى؛ فقال له الحجاج، نعم ولكنك قلتها بتلك الطريقة وليست بالطريقة المعهودة! فضربوا عنقَه ومات!.
الا يُشير كلّ ذلك الى انتشار ظاهرة محاكم التفتيش فيما بيننا؟ الا يثير كل ذلك الرعب والارهاب في صفوفنا، الامر الذي يحرّض على ظواهر مثل النفاق والمجاملة والكذب الذي يسمّيه البعض بالتقيّة درءاً للمشاكل مع الاخرين؟!.
لقد قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام لأبي بصير، وهو أحد أصحابه المقربين؛ {يا أبا محمّد لا تُفتش النّاس عن أدياِنهم، فتبقى بلا صديق}.
وعملاً بهذه النصيحة الذهبية من الامام عليه السلام تعالوا؛
اولاً؛ نقلّل من السؤال عن دين الناس وعقائدهم وبماذا يؤمنون؟ وبماذا لا يؤمنون؟ ولمن يقلّدون؟ ولماذا لا يقلّدون؟ فان ذلك يثير المشاكل بيننا ولا يساعد على إيجاد الارضيّة المشتركة فيما بيننا.
ثانياً؛ ان يكون المعيار في الحوار والنقاش هو التفكير السليم بغض النظر عن الخلفيّة، فكم من (مُلتزم) لا يفكّر بشكلٍ سليم وكم من (غير ملتزم) يُبهرك تفكيرَه السليم؟.
ثالثاً؛ وان يكون المعيار في العمل المشترك والتعاون هو أوسع الاطر وليس أضيفها، الامر الذي لا يتحقّق الا باعتماد فكرة التعددية التي تقوم على أساس التنوع، والذي لا يتحقّق إذا بقينا نفتّش في عقائد الناس ونطرح عليهم الأسئلة الإرهابية.
رابعاً؛ لنتعاون من اجل خلق فضاءات التّفكير الحرّ ليُعبّر الناس عن آرائهم بحريّة، بعيداً عن ايّ نوعٍ من انواع الارهاب الفكري و (الديني).
لا نُحاسب الناس على نواياهم وانّما على ما يقولون ويصرّحون به، فليس من واجبنا ان نشقّ صدور الناس لنطّلع على نواياهم وما في قلوبهم.
اضف تعليق