بالرغم من التعارض والتضاد ما بين مصطلحي العولمة والأصولية من حيث إن العولمة تتطلع للانفتاح الاقتصادي والثقافي والتقارب بين الشعوب والثقافات والوصول للمواطنة العالمية، بينما الأصولية تُحيل للتطرف والانغلاق ورفض الآخر، إلا أن المشهد العالمي اليوم يشير إلى التلازم بينهما أو صوغ علاقة سبب ونتيجة أو ولادة الشيء من نقيضه.

فمنذ أن تم التبشير بزمن العولمة في العقد الأخير من القرن الماضي، كان من المأمول أن تؤدي العولمة، بما هي إزالة الحدود والحواجز بين الدول والشعوب ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، إلى وضع حد للشعوبية والتطرف والانغلاق على الذات وأن يتحقق الحلم الرومانسي بتحويل العالم إلى قرية كونية يعمها السلام والهدوء، إلا أن ما جرى أن العولمة انقلبت على أصولها، والعالم تسوده حالة من الشك والقلق وألا يقين ليس فقط في الحاضر بل بالمستقبل أيضا، حيث الإرهاب يتمدد ويضرب في كل مكان وترد الدولة بمزيد من التضييق على الحريات والانغلاق على الذات، وتتراجع اهمية ودور المؤسسات الدولية، هذه الأخيرة التي تحولت لشاهد زور على ما يجري في العالم من فوضى وإرهاب ومجازر.

لقد أنتجت العولمة نقيضها، من شعوبية وطائفية وعنصرية وإثنية ويمين متطرف والأصولية بكل أشكالها، بل عادت القبلية والعشائرية إلى المجتمعات العربية والإسلامية بشكل غير مسبوق بحيث بدت هذه الشعوب وكأنها لم تعرف الدولة من قبل !.

قد يكون صحيحا أن العولمة الاقتصادية قطعت اشواطا مهما فيما يتعلق بالتجارة والاستثمارات أو حركة رؤوس الاموال وثورة المعلوماتية خصوصا الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، إلا أن العولمة فشلت في التماهي مع أصولها دون ذلك من الأمور، حتى على المستوى الأول فلم يخلُ هذا المُنجز من أصولية، فقد ظهر ما يسمى (أصولية رأس المال) كما قال بعض المفكرين. كل ذلك يستدعي إعادة النظر في صحة ودقة الحديث عن زمن العولمة، أو على الأقل إعادة النظر في غالبية التعريفات التي أعطيت للعولمة والتي حاولت أن تضفي عليها طابعا اخلاقيا وانسانويا، بل وصل الأمر ببعض المفكرين الغربيين –فرنسيس فوكوياما- لنعي زمن الأيديولوجيا والصراعات الدولية.

بدل توحيد العالم وتقارب الثقافات انفجر العالم في حروب وصراعات : تفكيك الاتحاد السوفيتي، تفكيك تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا واندلاع حروب وصراعات البلقان وشبه جزيرة القرم على أسس طائفية وعرقية، الحرب الأهلية في السودان وتفكيكه، حروب الخليج الثلاثة واحتلال العراق وتدميره وتفكيكه، تفشي الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة، انتشار الجماعات الدينية الإسلامية المتطرفة والتي كان للغرب يد في تأسيسها بداية مع تنظيم القاعدة ثم لاحقا مع تنظيم الدولة (داعش)، وأخيرا وليس آخرا صناعة فوضى (الربيع العربي) وتدمير واحتلال دول ومجتمعات كالعراق وليبيا واليمن وسوريا، وخلق فتنة في أخرى كالعربية السعودية ومصر وتونس الخ.

لم تقتصر مفاعيل العولمة المتعارضة مع منطقها الأول على دول الجنوب بل توغلت في بلدان الغرب، ولم يكن خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي بعد الاستفتاء الذي جرى يوم 23 يونيو 2016، بسبب ضغط اليمين المتطرف والنزعة الشوفينية، الحالة الوحيدة لارتكاسة العولمة في العالم الغربي بل ستمتد الظاهرة لبقية دول أوروبا، حيث كتبت جان ماري لوبان رئيسة الجبهة الوطنية لأقصى اليمين في فرنسا على حسابها على موقع التواصل الاجتماعي تويتر بعد الاستفتاء مباشرة " لقد حان الوقت لإجراء استفتاء في فرنسا وغيرها من دول أوروبا."

إذن ما جرى في بريطانيا جزء من ظاهرة صعود اليمين المتطرف وهو شكل من الأصولية والشعوبية التي لها نضير في كثير من دول أوروبا، كحزب " الجبهة الوطنية " في فرنسا الذي تتزعمه جان ماري لوبان، وحزب "الحرية" في النمسا، وفي الدنمرك "حزب الشعب الدنماركي" بزعامة بيا كيارسغارد، وفي السويد حزب "الديمقراطيين"، وحزب "البديل" في المانيا، وحزب "التقدم" في النرويج الخ، وفي الولايات المتحدة الامريكية فإن اليمين المحافظ واليمينيين الجدد صعدوا إلى مواقع قيادية في الإدارة الأمريكية منذ الثمانينيات، ونموذجهم الأكثر تطرفا اليوم المرشح الرئاسي دونالد ترامب، وفي إسرائيل حيث التوجه نحو اليمين غير مسبوق.

ومع ذلك فهناك فرق بين ما يجري في الغرب بشكل عام وخصوصا صعود الاصوليات أو اليمين المتطرف أو المحافظين الجدد، وما يجري في العالم العربي والإسلامي مع ظاهرة الأصولية الإسلامية. صعود اليمين المتطرف وظاهرة الأصولية في الغرب غالبا ما تعزز الدولة القومية وتحافظ على الهوية القومية وتحقق أهدافها غالبا بوسائل ديمقراطية وحضارية، بينما اصولياتنا فإنها مفَتِتة ومُذَرِرة لوحدة الشعب والهوية ومُدمرة للدولة الوطنية وتستعمل العنف لفرض تصوراتها كما تثار شكوك حول علاقاتها مع قوى أجنبية.

مع أن بعض الكُتاب حذروا مبكرا من أن تؤدي العولمة لأمركة العالم على حساب المجتمعات والدول الضعيفة، إلا أن ما لم يُنَظِر له الكُتاب والمفكرون أن يستعمل الغرب وخصوصا واشنطن ورقة الإرهاب والتطرف الديني وسياسة (الفوضى الخلاقة) بالتعبير الامريكي لتدمير الدول والمجتمعات التي تعادي المصالح الغربية. فهل سيدرك العرب والمسلمون أن ما تمارسه التنظيمات الإسلامية المتطرفة كتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة (داعش) في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول، ليس صحوة إسلامية بل جزءا من سياسة (الفوضى الخلاقة) الأمريكية والتي تصب في خدمة الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل، حيث تعيش هاتان الدولتان عصرهما الذهبي فيما تعيش الأمتين العربية والإسلامية عصر الانحطاط؟.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق