عندما سُئل "جوزيف ناي" عن تغيرات القوة وتطوراتها في القرن الواحد والعشرين وعن العناصر الاساسية التي تحكم تطورها في العالم، لاسيما في الشرق الأوسط بعد مجريات الربيع العربي أجاب، بأن هناك تغييرين أساسيين للقوة في القرن الحادي والعشرين. أحدهما هو التحول بين الدول من الغرب إلى الشرق والذي يمكنك أن تطلق عليه "تعافي آسيا"، فقد عاد وضع آسيا إلى التوزيع الطبيعي؛ نظراً لأنها كانت تمثل نصف سكان العالم، وبالتالي نصف إنتاجه وهو ما غيرته الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. والتغيير الثاني للقوة هو توزيعها بعيدا عن كل الدول الغربية إلى أطراف من غير الدول، نتاجا للانخفاض الاستثنائي لتكلفة عمليات الحوسبة والاتصالات والتي نتجت عن ثورة المعلومات الحالية. وهو ما مكن أساسا الأطراف من غير الدول والأفراد لكي تفعل أشياء كانت من قبل تقتصر على الحكومات أو المؤسسات الكبرى.
نستشف من كلام " ناي" حول مستقبل القوة في أسيا بشقيها الصلبة والناعمة، على الرغم من التهديدات الإرهابية والافكار المتطرفة التي تهدد القارة الأسيوية، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه حتى تلك التهديدات ربما يدخلها البعض كنوع من الاستخدام غير المباشر للقوة والمصالح الدولية، بأن التحول من الغرب إلى الشرق أو ما يطلق عليه "تعافي اسيا" هو التحول الصناعي والتطور التكنولوجي في هذه القارة، لاسيما في الدول الشرق أسيوية مثل (الصين واليابان وكوريا) التي اصبحت قوة سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، لكن هذا على مستوى الدول كمفهوم تقليدي متعارف عليه، وهو شيء طبيعي وفقاً لنظرية التطور البشري وللطبيعة التقليدية للدولة بمفهومها العام.
أما على المستوى الآخر والتوزيع البعيد عن مفهوم الدول أو ما يطلق عليه اليوم "جماعات من غير الدول"، وهي في الغالب ضرب لقوة الدولة وهيبتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وقد تزداد خطورتها في حال ارتبطت تلك الاطراف بأيديولوجيات سياسية خارجية ورؤية سياسية ضيقة، لاسيما في ظل حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها بعض الدول، كما هو حال اغلب الدول العربية مثل (العراق وسوريا واليمن وليبيا)، والتي اصبحت دول غير قادرة على حماية نفسها وفرض هيبتها في ظل تعدد اطراف القوة المحلية والإقليمية فيها، لاسيما مع انتشار الحركات والتنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة التي تريد أن تفرض ايديولوجيات معينة أو تفرض حالة من عدم الاستقرار الداخلي في تلك الدول من أجل فرض سياسيات دولية أو إقليمية معينة.
وعلى الرغم من أن "جوزيف ناي" لم يشير إلى الحركات والجماعات الإرهابية بشكل مباشر وإنما اشار إلى المنظمات الدولية والشركات العابرة للقارات التي اصبحت منافسا قويا للدولة كمفهوم تقليدي، إلا أن تلك الجماعات والفصائل والمليشيات هي من تقوض سيطرة الدول، والمنافس الأكبر لسيادتها، واصبحت قوى طاردة للشركات والمؤسسات الاستثمارية. فإذا ما اخذنا الوجه الآخر للتغيير الثاني، فأنه يؤشر بشكل أو بآخر على مفهوم القوة الناعمة أكثر من القوة الصلبة، لاسيما وأن القوة التي تمتلكها الجماعات المتطرفة غير الدولتية (جماعات غير الدول) والجماعات الأخرى، هي قوة ناعمة في أكثر صورها؛ لاسيما في مجال التوظيف الإعلامي والديني واستخدام المنظومة العالمية (الانترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي) ومخاطبة المتطرفين بلغات متعددة واستخدام التكنولوجيا والحوسبة وغيرها من المعلومات التي تساعدها في ايصال فكرها المتطرف، فضلاً عن الاستخدام المفرط في القوة الصلبة اتجاه كل من يخالفها الرأي.
هذا التوظيف لعناصر القوة الناعمة من قبل تلك الجماعات قد تكون دول على مستوى النظام الدولي فشلت به، لاسيما الدول العربية والتي ما زالت تعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي كما هو العراق وسوريا اليوم وغيرهما من باقي الدول العربية. فهذه الدول اليوم بحاجة حقيقية إلى مراجعة شاملة لكل جوانبها السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية، وبحاجة إلى مراجعة علاقاتها الخارجية، لاسيما مع الدول العظمى، وكذلك بحاجة إلى استراتيجيات شاملة وواضحة تمكنها من توظيف امكانياتها السياسية والاقتصادية وقواها (الناعمة والصلبة) للتغلب على تلك الجماعات، ومن ثم منافسة الدول بالمعنى التقليدي. وهذا بحاجة إلى توظيف صحيح لعناصر القوة الناعمة وليس إلى القوة العسكرية فقط، لاسيما وأن هذه الدول لا تمتلك قوة عسكرية قوية ومهنية بنفس الوقت. وإن براعة وقدرة وامكانية صانع القرار هي من تّومن ذلك. وهذا ما اكده "جوزيف ناي" في كتابه (مفارقة القوة الأمريكية)، بأن " تحويل موارد قوة العراق المحتملة إلى قوة متحققة يتطلب سياسة جيدة التصميم وقيادة بارعة".
وعليه، يمكن للحكومة العراقية أن تسعى إلى طرد تنظيم "داعش" وتقويضه سياسياً وفكرياً في المناطق التي اجتاحها التنظيم، ومن ثم السعي إلى تقويض كل القوى والفصائل والمليشيات المسلحة التي انتجها الواقع السياسي العراقي بعد العام 2003، ولاسيما بعد 10/حزيران/يونيو/2014. والعمل على استعادة قواها الداخلية والخارجية بسياسات رشيدة وقرار داخلي قوي من خلال الاستقرار السياسي الداخلي وتوحيد الجبهة الداخلية أولاً، ومن ثم الانطلاق نحو الخارج؛ لأن بقاء تلك الفصائل والجماعات على ما هي عليه سيمكنها من بلورة مشاريعها السياسية لتقويض سيطرة الدولة تدريجياً، وبالتالي ستشكل خطرا كبيرا على مستقبل الدولة العراقية، في ظل تعدد أطراف القوة وتقاطع اهدافها وتعدد مشاريعها وايديولوجياتها السياسية. وبالتالي سيكون هناك صراع سياسي بأيديولوجيات مختلفة تضعف تماماً من هيبة الدولة العراقية وتشتت قرارها السياسي. وهذا بحاجة فعلية إلى جرأة وواقعية كبيرة من قبل صانع القرار العراقي، لتقويض عمل تلك الجماعات.
اضف تعليق