لم نأخذ على محمل الجد، ما نُسب إلى داعش من عرض بالإفراج عن الرهينتين اليابانيتين مقابل فدية قيمتها مئتي مليون دولار... بيان داعش كان بمثابة رد مباشر على تصريحات رئيس الحكومة اليابانية التي تضمنت عرضاً بقيمة مئتي دولار على شكل مساعدات لدول المنطقة التي تتصدى لخطر الإرهاب... لم تنتظر داعش رد طوكيو، وبادرت إلى قطع رأس أحد المختطفين، وبقية القصة معروفة.

لكن آخر عروض داعش بمقايضة الرهينة اليابانية المتبقية بساجدة الريشاوي، يبدو عرضاً "واقعياً" مع أنه من غير المنطقي أن تُطَالب دولةٌ بتقديم ما لا تملك، وما ليس بيدها، مقابل الإفراج عن رهينة من مواطنيها... وأحسب أن "دولة الخلافة" أرادت بعرضها الأخير أن تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد... فإن قبلت الحكومة الأردنية بعرض داعش لدوافع إنسانية أو انسجاماً مع علاقاتها المتميزة مع اليابان، تكون قد قامرت بردة فعل شعبية أردنية غاضبة، إذ من باب أولى أن ترصد "ورقة الريشاوي" لمعالجة قضية الطيار الأسير معاذ الكساسبة، وإن رفضت تكون قد "خذلت" صديقاً وحليفاً مهماً بحجم اليابان، وفي مطلق الأحوال تكون داعش قد حققت مكسباً في حربها الدعائية المستمرة باحتراف لافت.

خلال الأيام القليلة الفائتة، تلقى كاتب هذه السطور، اتصالات عديدة، أغلبها من جهات إعلامية يابانية، من داخل المملكة وخارجها، ذهبت جميعها للسؤال عمّا سيكون عليه الموقف الأردني من مطلب داعش أو شرطها للإفراج عن الرهينة اليابانية... أما جوابي المستند إلى القراءة والتحليل في ظل ندرة المعلومات وشحها (وهو أمر مفهوم في حالات كهذه)، فقد انطلق من فرضتين اثنتين:

أولاهما: أن الأردن ليس بوارد التفريط بـ "ورقة الريشاوي" من دون ضمانات للإفراج عن الأسير الأردني، وهذا أمرٌ من المؤكد أنه اليابان حكومة وشعباً تدركه وتتفهمه، فمثلما أن قضية الرهينتين اليابانيتين قد أصبحت قضية رأي عام في اليابان تتصدر سلم الأولويات، فإن معاذ الكساسبة، هو أيضاً قضية رأي عام أردن، وتتصدر أجندة الأردن، ملكا وحكومة ومجتمعاً، وبامتياز.

ثانيهما: أن أية مقاربة لهذا الملف، يجب أن تلحظ البحث عن "صفقة شاملة" يجري بموجبها التفاوض غير المباشر، عبر القنوات القائمة أو المحتملة، من أجل الوصول إلى "نهاية سعيدة" للأسيرين معاً، وليس لواحد منهما فقط، وأعني هنا بالذات الملازم الطيار معاذ الكساسبة، الذي أصبح فرداً في كل عائلة أردنية، تترقب مصيره وتنتظر عودته سالماً إلى أهله وذويه.

لا شك أن الأردن، يريد أن يساعد اليابان لإنهاء محنة الرهينة، ولا شك أن العرض الداعشي، ينطوي على قدر من الإحراج، أو يراد به إحراج الأردن... لكن المؤكد أن مجرد دخول داعش على خط عرض المطالب والشروط، وإن كانت غير نهائية بعد، يعني أن فرص "الحل السعيد" ما زالت قائمة، وأن احتمالات التوصل إلى "الصفقة الشاملة" التي تحدثنا عنها، ما زالت جيدة.

يجادل البعض بـ "عدم جواز" التفاوض مع الإرهابيين تحت أي ظرف أو شرط، وثمة أطراف دولية، من بينها الولايات المتحدة، حثت على تفادي إبرام أية صفقة مع داعش، لكن عودة سريعة للوراء، للأشهر والسنوات القليلة الفائتة فقط، تظهر أن ما من دولة من الدول الكبرى إلا ودخلت في "صفقات" مماثلة، ففرنسا مثلاً فاوضت وقايضت على رهائن في مالي، والولايات المتحدة أفرجت عن أربعة من قادة طالبان الكبار مقابل جندي أمريكي مختطف لدى الحركة في أفغانستان، ولبنان يفاوض على جنوده المختطفين من بلدة عرسال اللبنانية، وهو مستعد للمقايضة إن تقدمت داعش والنصرة بعروض يمكن الأخذ بها، وهذا غيض من فيض التجارب المماثلة.

إن ظلت مطالب داعش في الحدود الممكنة والمعقولة، فإن إبرام "صفقة شاملة" للإفراج عن الأسيرين، مقابل ساجدة الريشاوي وغيرها، يبدو أمراً مقبولاً ومرحباً به، وإن من باب "أبغض الحلال"... لكن إن أصرت دولة البغدادي على مطالب وشروط تعجيزية، فأحسب أنها ليست جادة في عرض "تبادل الأسرى"، وأنها تستهدف فقط، تحقيق إنجاز دعائي.

أما السؤال حول: لماذا ساجدة بالذات، فأحسب أن الجواب عليه، لا يتعلق بموقع ومكانة هذه المرأة في تنظيم الدولة... أحسب أن للمسألة دلالة رمزية – معنوية، لا أكثر ولا أقل... داعش تريد أن تخبرنا بأنها تسير على سنة السلف الصالح وصيحة "وامعتصماه" في التاريخ الإسلامي... داعش تريد أن تؤكد لأنصارها وجمهورها بأنها لا تترك "جنودها" وراءها، وهي العبارة التي طالما رددها الجيش الأمريكي في حروب ومواجهات عديدة... وداعش تريد أن تنسب لنفسها نصراً مؤزراً، بعد أن توقف مشروع تمددها وأخذت في الانكماش، من "كوباني" إلى ديالى وغيرهما.

قد يعتقد البعض أن ربط مصير الطيار الأردني بمصير الرهينة اليابانية، قد جلب تعقيداً إضافياً على ملف الأسير الطيار... لكن، ومن دون إسقاط هذه التعقيدات، أحسب أيضاً أنه قد يشكل فرصة، والأمر من قبل ومن بعد، يعتمد على الطريقة التي ستحسم بها داعش خياراتها، وما إذا كانت معينة فعلياً بمصائر الريشاوي وغيرها وصولاً لنهاية سعيدة لهذا الملف، أم أن المسألة ليست سوى بروباغندا ستنتهي نهاية تراجيدية... دعونا نتفاءل، ألم يقل المثل الشعبي "تفاءلوا بالشيء تجدوه".

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق