استهلال:
"ثمة طبيعة أساسية وثمة عدة إكتسابات، تتداخل مع هذه الطبيعة، وتحاكيها دون أن تختلط بها"1
يبدو في الظاهر أن الفطري هو ذلك الجانب البيولوجي/الغريزي الذي يولد مع الإنسان. أما المكتسب فيتمثل في جميع أشكال السلوكات الثقافية التي خلقها الإنسان من خلال تفاعله مع أمثاله. ولكن إذا كان إدغار موران E. Morin قد رأى أن الإنسان كائن بيولوجي كلية، وكائن ثقافي كلية ؛ فإن التصورين، البيولوجي الصرف والسوسيو-ثقافي، لا يشاطرانه الرأي. ولعل السبب الذي يكمن وراء ذلك أن الطرح البيولوجي يعتبر الإنسان كائنا بيولوجيا بالدرجة الأولى، لأن جميع مكوناته وتشكيلاته المستقبلية محددة بالوراثة. فالصبغيات والجينات تحمل جميع ما سيؤول إليه الإنسان في المستقبل.
إذا كان منديل Mendel تحدد انتقال الخصائص الوراثية من جيل إلى آخر، فإن كثيرا من البيولوجيين يؤكدون تعميم ذلك على السلوكات النفسية. وبناء على ذلك تقلص النظرة البيولوجية من دور المحيط، حيث يرى أغست فايزمان A. Weismann أن المحيط يؤثر على الخلايا الجسمية soma ولا يمكن أن يؤثر، إلا باحتمال ضعيف جدا، على الخلايا الجنسية germen المسؤولة عن انتقال الخصائص الوراثية.
أما النظرة السوسيوثقافية، فإنها تعتبر الإنسان منتوجا ثقافيا بالدرجة الأولى. فيرى دوركايم Durkheim أن الظواهر الإجتماعية بمثابة "أشياء"، فلا يمكن للإنسان أن يتجاهلها وإلا تعرض للقهر الذي يمكن أن تمارسه عليه. ومن ثمة فإن السلوكات السيكولوجية لايمكن أن تفسر بعوامل بيولوجية أو فطرية لأنها نتاج اجتماعي. هكذا يرى لوسيان مالصون L. Malson – من خلال أطروحته "الأطفال المتوحشون" – أن عزل الطفل البشري عن بني جنسه، سيجعل منه كائنا غريبا؛ لأنه ليست هناك غريزة خاصة بالنوع البشري. فإنسانية الإنسان تتوقف على وجوده داخل محيط ثقافي.
وفي هذا الإطار تطرح الإشكالية التالية: كيف كان الإنسان قبل أن يدخل إلى عالم الثقافة ؟ أو بتعبير آخر، كيف كان الإنسان قبل أن يعرف الحياة الاجتماعية؟ كما يمكن طرح السؤال التالي: ما الذي يلعب الدور الأساسي في شخصية الإنسان ؟ هل الفطري أم المكتسب؟
في الواقع يجب التمييز بين الطبيعة الخارجية وهي مجموع الموجودات والأشياء الماثلة في العالم خارج المنتجات المصنوعة من طرف البشر والطبيعة الداخلية وهي مجموع السمات والقوى التي جبل عليها الإنسان وتمثل الجانب الطبيعي البيولوجي وتتكون من رغبات وغرائز ودوافع وبواعث ومثيرات وأمزجة. لكن هل الجانب الطبيعي في الكائن البشري من الأمور الفطرية الموروثة أم من العادات المكتسبة؟ ما المقصود بالفطرة ؟ وهل تتعارض مع التجربة والتاريخ؟ وماذا يكتسب المرء في حياته؟ ثم كيف تشكلت النظرة الميكانيكية للطبيعة على أنقاض تحطيم فكرة الكوسموس ونهاية العالم المغلق؟
والحق أن"ما يطرح مشكلا في تعبير فطري ومكتسب ليس لا الفطري ولا المكتسب (إذ يمكن تحديدهما بسهولة)، بل هو حرف الواو الذي يرمز إلى نوع العلاقة بينهما. لكن هذا الحرف الذي هو بمثابة كمين سيدفعنا إلى الحذر تجاه عملية الجمع هذه، التي هي عملية ضرورية في الحياة اليومية."2
-1- الآليات البيولوجية مثل الذكاء وصنف الدم ولون البشرة ودائرة الرأس والمعلومات التي يحملها إلي الإرث التناسلي تمثل ماهو فطري في الإنسان. وبعبارة ديكارت الفطري هو النور الطبيعي للعقل.
-2-المواد المتوفرة من العلاقة بالمحيط والطاقة والحالة العاطفية تمثل ماهو مكتسب لدى الإنسان. وبعبارة دفيد هيوم المكتسب هي المعارف التي يحصل عليها المرء بحكم تكرار التجارب والعادة.
غير أن العلاقة بين الفطري والمكتسب متداخلة وناتجة عن العديد من العوامل المتفاعلة ومن الخطأ المنطقي دراستها عن طريق الفصل بينها واستبدال الواقع بالنماذج وبالتالي تقع في محظور نفي الطبيعة التي تزعم أنها تحاول دراستها. فماهي حصة كل من الفطري والمكتسب في الطبيعة؟ وكيف تتم معرفة الطبيعة ؟ هل بالاعتماد على العقل وما يتضمنه من أفكار أم بواسطة التجربة؟ وما الهدف من معرفتها؟
إذا كانت الفلسفة الإغريقية قد جعلت من الطبيعة معارا معرفيا فإن مفهوم الطبيعة مع ديكارت لم يحافظ على نفس المعنى بل ارتبط بتشكل العلوم الطبيعية وأعطيت للرياضيات والمنهج التجريبي الشرعية المعرفية لدراسة الظواهر الفيزيائية وتكيس الملاحظات وبلورة الفروض واستنتاج القوانين.
بناء على ذلك تحولت فكرة الطبيعة في العلم الحديث إلى آلية تسمح للبشر بأن يحددوا موقعهم من الكون وصارت تتيح إمكانية تحويل المعطى غالى المبني والخام إلى المرسكل وبلوغ الحيواني فيه. لقد أصبح الإنسان في الحضارة الحديثة سيدا ومالكا للطبيعة3 وأصبغ عليها بعض الخصائص التي لا تنتمي إلى كائن طبيعي آخر سواه وهي كيفيات مرتبطة بتكوينه الفزيولوجي والنفسي ومقاصده، كما صار بإمكانه دراسة وقراءة الكتاب الكبير بواسطة استعمال لغة رياضية بدل الكتابة على نص مستقل. لقد حلت الفلسفة الطبيعية محل الفلسفة التأملية وشرعت في دراسة ظواهر الكون ومعرفة القوة والنار والهواء والأجرام وحركة الأجسام التي توجد في محيط الإنسان ويمكن أن يستعملها بصورة خاصة. فماهي رؤية الفلسفة الديكارتية للمعطيات الفطرية؟
1- وجهة نظر ديكارت:
لقد بين ديكارت بأن الجسم آلة عضوية تتكون من عدة أجهزة وغدد وتحكمها قوانين دقيقة وكشف عن وجود طبائع ثابتة لا يمكن للشك أن ينكرها وحدد مفهوم الحقيقة بالانطلاق من النور الطبيعي للعقل.
يصرح ديكارت حول هذا الموضوع: "بالنسبة إليَّ، أميز بين نوعين من الغرائز: الأولى هي فينا من حيث نحن بشر وكائنات عقلية بشكل محض، وهي النور الطبيعي...، أما الأخرى توجد فينا من حيث نحن حيوانات وتدل على الدافع الخصوصي في الطبيعة نحو المحافظة على الجسم الخاص بنا"4.
لقد ساهم ديكارت إلى جانب كل من غاليلي وكوبرنيك وكبلر ونيوتن في قيام علم الطبيعة في العصر الحديث وأوكل إلى هذا العلم مهمة دراسة الطبيعة بهدف معرفتها بشكل دقيق بواسطة الرياضيات والمنهج التجريبي والسيطرة على الظواهر والتحكم بها عن طريق التقنية والصناعة وتشييد طبيعة ثانية.
كما نصص ديكارت على أن الامتداد هو أساس الطبيعة المادية بينما الفكر هو أساس البعد الروحي وجعل من الميتافيزيقا أساس الفيزياء، ومن المعلوم أنه لم يثبت أثناء رحلة الشك حتى التأمل الخامس سوى وجود الذات والإله، بل اكتفى بالتمييز بين النفس والجسد، أما في التأملات (الخامس والسادس) فإنه قد انطلق إلى إثبات وجود العالم وحقيقة الأشياء. ما تناوله ديكارت في هذا الشأن ليس وجود المادة في حد ذاتها أو الأجسام المادية أو العالم في كليته بل حقائق الحساب والهندسة، ويذهب إلى التمييز بين معرفة العالم باعتباره مادة ومكوناً من أشياء مادية، والمعرفة الرياضية، ويقر بأن المعرفة الرياضية تتمتع ببداهة وصدق داخلي، والضمان الوحيد لهذا الصدق الداخلي هو أن الإنسان قادر على الحكم في المسائل الرياضية بيقين، وهذه القدرة على الحكم الصحيح ليست زيفاً أو خداعاً، لأن الإله هو الذي يضمن وصول الإنسان إلى اليقين في الرياضيات طالما استخدم ملكة الحكم لديه على نحو صحيح. والحقائق الرياضية من حساب وهندسة يتوصل إليها العقل وحده دون الاعتماد على الحواس ودون العودة إلى التجربة. فكيف استخدم ديكارت الرياضيات من أجل قراءة كتاب الطبيعة المفتوح؟ وماهو المفتاح المعتمد في هذه القراءة؟
يبدو أن ديكارت كان يعتقد في وجود حقائق رياضية مستقلة عن العالم المادي، ويري بأن فهذه الحقائق موجودة فطريا وموضوعة على مستوى الفكر وليست في حاجة إلى العالم المادي كي تتحقق وما على العقل إلا اكتشافها بنفسه بدون الاستعانة بالإدراك الحسي ودون التثبت بالتجارب.
مقتضى القول أن الطبيعة حسب ديكارت هي مادة في الأساس وهي مختلفة من حيث الجوهر عن الرياضيات التي هي مفكر خالص وتتمتع بالصحة واليقين ويمكن الاستعانة بها لتفسير ظواهر الطبيعة دون الجزم بأنها التعبير الحقيقي عن جوهر الطبيعة وماهيتها، كما سيفعل من بعده سبينوزا ونيوتن.
أما عن طبيعة الأشياء المادية فإنه يميز فيها بين ما يدركه العقل من صفات الأولية للأشياء، مثل الامتداد والشكل والعدد، وما تدركه الحواس. من صفات ثانوية مثل اللون والطعم والرائحة والملمس. ويذهب ديكارت إلى أنه طالما يدرك العقل الصفات الأولية في الأشياء بوضوح وتميز فمعنى هذا أن هذه الصفات موجودة بالفعل في المادة وهي ما تشكل ماهيتها، أما الصفات الثانوية فليست في المادة نفسها بل هي ناتجة عن تأثر الحواس بالمادة، وآيته على ذلك تغير هذه الصفات الثانوية.
في هذا المنظور إن المادة في الأساس امتداد وعدد وشكل وحركة. هذه الصفات الأولية هي حقيقية لأن العقل هو الذي يدركها ويستقبلها وترد عليه دون أن يتأثر بها، أما الصفات الثانوية فلا تستقبلها الحواس من المادة بل تتأثر بها وحسب، والاستقبال يختلف عن التأثر إذ أن الاستقبال لشيء موجود بالفعل، في حين أن التأثر يعود إلى طريقة التركيب وطبيعة الحواس، وبالتالي فنحن لا نعرف من الأشياء على الحقيقة إلا ما نستقبله منها بوضوح وتميز وهو الامتداد والحركة والعدد، أما ما تتأثر به حواسنا فلسنا على يقين من أنه داخل في طبيعة المادة، بل هو صفات ثانوية فيها يمكن أن تتغير مع بقاء الصفات الأولية للمادة كما هي.
اللافت للنظر أن الذهن البشري حسب ديكارت يملك معانٍ وتصوّرات لم تنبثق عن الحسّ وإنّما هي ثابتة في صميم الفطرة، فالنفس تستنبط من ذاتها. إن هناك معارف وأفكار ومبادئ فطرية توجد في العقل منذ الولادة، وبالتالي هي معارف ومبادئ تتميز بالبداهة والوضوح والإطلاق والكلية وهذه التصوّرات الفطرية Innées عند (ديكارت) هي فكرة (الله والنفس والامتداد والحركة) وما إليها من أفكار تتميّز بالوضوح الكامل في العقل البشري مثل الوجود والكمال والذات والجوهر والماهية والنظام والترتيب.
علاوة على ذلك إن العقل ملكة فطرية وأنه موزع بين الناس بالتساوي بحيث ليس هناك شخص أوتي من العقل أكثر مما أوتي الآخرون. زد على ذلك إن العقل قادر على إنتاج الأفكار والمعارف انطلاقا من مبادئه الذاتية ودونما حاجة إلى أي مصدر خارجي، والعقل في نظره لا حدود له حيث بإمكانه أن يدرك كل الحقائق حتى الميتافيزيقية منها كوجود الله وخلود النفس وبداية العالم.
لقد جعل ديكارت الطبيعة آلة كبيرة وجعل اللغة ميزة طبيعية لدى البشر يتفوق بها على الحيوان وتصور الحيوانات في شكل آلات5 تعمل أعضاؤها وفق قوانين وبرهن من خلال تجربة الشمعة على بقاء الجوهر الممتد بالرغم من ذهاب كيفياته الحسية6 ووضع تنظيما جديدا للعالم ومنح الذات إمكانيات جديدة للهيمنة عليه وأسس عقلانية الفيزياء الرياضية على أنقاض فكرة العالم المغلق وعزز مكانة المادة في العلم.
علاوة على ذلك انطلق من فكرة دور النور الطبيعي في البرهنة على وجود الله في التأمل الثالث من أجل رسم الحدود بين الطبيعة والفكر وبين الفيزياء والميتافيزيقا وأقحم الواقع في السبب والأثر معا. ولا يمكن وضع المعارف التي يحصل عليها الذهن بواسطة النور الطبيعي موضع شك، لكن هذا الإقرار يفضي إلى مشكل هو شكل العلاقة بين النور الطبيعي ومعايير الحقيقة كالوضوح والتميز. كما يفترض أن يكون هذا النور الطبيعي منغرسا في الأنفس البشرية بواسطة الله وبالتالي يصعب التمييز بين نظام الطبيعة والنظام الميتافيزيقي وبين الحقيقة الموضوعية واليقين المطلق وبين الصرخة الطبيعية والكلام البشري7.
لكن تبقى الغاية التي جعلها ديكارت لهذه المعرفة الطبيعية - وهي السيطرة على الطبيعة وتملكها8 – محل أخذ ورد لذلك تم انتقاد هذا الهدف من طرف"ميشيل سير" الذي تساءل: إذا كان الهدف من العلم الطبيعي هو التحكم في الطبيعة، فهل يمكن التحكم في تحكمنا ؟ بمعنى هل نستطيع السيطرة على العنف البشري الذي دمر الطبيعة بدعوى السيطرة عليها ؟ إنها فكرة خطيرة هيمنت على الحضارة الغربية منذ ديكارت أفضت إلى تكاثر التصنيع التقني وكانت لها أثار سلبية على الطبيعة وعلى الوجود البشري ذاته.
2- وجهة نظر هيوم:
من جهة مقابلة يتعامل هيوم مع كل معرفة تخص الإنسان على أنها فلسفة قيمية وأخلاقية بما فيها نظرية المعرفة ومبحث السياسة والدين والاقتصاد، فهو يرى كما ذكرنا أن المعارف البشرية تنقسم إلى:
1 - فلسفة طبيعية تضم كل معارفنا عن الطبيعة بالمعنى الفيزيائي والكيميائي والإحيائي والرياضي.
2 - ولأن المعرفة ظاهرة إنسانية، فقد نظر إليها هيوم على أنها تنتمي إلى الفلسفة الأخلاقية. وكان في ذلك، منطلقاً من الاعتقاد في أن ما يحدد كل إنتاج إنساني هو طبيعته القيمية وما يتضمن من انفعالات ومشاعر وعواطف وإدراك حسي ومخيلة وفهم. لذلك فإن هيوم قد وضع لبحثه في الطبيعة البشرية عنواناً فرعياً هو (محاولة لإدخال المنهج التجريبي في الموضوعات الأخلاقية).
لم يكن هيوم هو أول من بحث في الطبيعة البشرية، ذلك لأن هذا البحث كان ملازماً للفكر الفلسفي منذ ظهوره لدى اليونان، لكنه يعد أول من بحث فيها انطلاقاً من المنهج التجريبي وذلك بتتبع موضوعات الفلسفة من معرفة وأخلاق انطلاقاً من بداياتها الأولى ودراسة المعرفة انطلاقاً من الإدراك الحسي وانطباعات الحواس، وإدراك الأخلاق انطلاقاً من الأحاسيس والعواطف والانفعالات.
وكان البدء بالإدراك الحسي والانفعالات لدراسة المعرفة والأخلاق يجعل نظريته سيكولوجية، فهو يرى أن علم النفس يجب أن يكون المنطلق. وأن علم النفس الذي يفهمه هيوم هو علم الطبيعة البشرية، ولهذا السبب ينظر إلى هيوم على أنه من إرهاصات علم النفس التجريبي الحديث. وكان هدف هيوم من ذلك الوصول إلى الدقة العلمية التي حازتها العلوم الطبيعية مع نيوتن في مجال الموضوعات الأخلاقية، والهدف من تشريح الطبيعة الإنسانية هو الوصول إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لهذه الطبيعة.
ينظر هيوم إلى الطبيعة البشرية على أنها في النهاية طبيعة يمكن دراستها والوصول فيها إلى المبادئ الأساسية الحاكمة لها تماماً فقد نظر إلى علم الطبيعة البشرية على أنه علم الوظائف النفسية. فقد انطلق من المبادئ الأساسية التي تحرك النفس الإنسانية مثل الأحاسيس والمشاعر والانفعالات، مؤسساً عليها نظريته في المعرفة وفي الأخلاق. ذلك لأنه اكتشف أن حركة النفس صادرة عن وظائف للنفس.
والمنهج التجريبي عند تطبيقه على الموضوعات الأخلاقية، يصبح بحثاً عن الوظيفة ويمثل المنهج العلمي الذي يقوم بالدراسة العلمية للطبيعة البشرية وذلك برفض الانطلاق من أي تصورات قبلية مسبقة عن الطبيعة الإنسانية، ويترك البحث التأملات القبلية في الطبيعة الإنسانية، مثل الافتراض بأنها طبيعة خيرة أو طبيعة شريرة، وهو يرفض التأمل الباطني باعتباره وسيلة يتوصل بها إلى الطبيعة الإنسانية. ويشرع في بحث سلوك الناس وما يكشف لنا هذا السلوك من انفعالات وعواطف.
"يجب علينا ممارسة تجاربنا في هذا العلم من الملاحظة الدقيقة والحذرة للحياة الإنسانية، وأخذها كما تظهر في العالم، عن طريق سلوك البشر في اجتماعهم وتسيير شؤونهم وفي مشاعرهم".
ونظر هيوم لطبيعة المعرفة البشرية من منطلق أنها مكونة من إدراكات بسيطة يصنع منها الفهم إدراكات مركبة، كما يدرس هذه الإدراكات على أساس الترابط بينها في الذهن، وهو ما يعرف بنظرية ترابط الأفكار الناتج عن طريقة عمل عقلنا. يقول هيوم في ذلك:"هذه هي إذن مبادئ اتحاد وتجانس أفكارنا البسيطة، والتي تقدم لنا في المخيلة رابطاً لا ينفصل، بها تتحدد في الذاكرة. ونجد هنا نوعاً من الجذب، الذي سوف نكتشف أن له آثاراً كبيرة في العالم العقلي مثلما كان له في العالم الطبيعي".
على هذا الأساس ينطلق في بحثه في الطبيعة البشرية من أفكار أساسية، وعن طريق ملاحظة سلوك البشر، ويرى أن هذه الأفكار تذهب إلى أن ما يحكم السلوك الإنساني، سواء كان معرفياً أو قيمياً أو أخلاقياً، هو الإحساسات والعواطف والانفعالات أولاً، فعن طريق الإحساسات نتعرف على الوجود وتتكون لدينا أفكار عنه، فلأننا نتلقى إحساساً باللون الأزرق نعتقد في وجود هذا اللون، ولأننا نتلقى أحاسيس اللذة والألم تكون لدينا أفكاراً عن اللذة والألم، وبالتالي نسعى للحصول على اللذة وتجنب الألم.
فالطبيعة الإنسانية مؤسسة بحيث تجعلنا نستحسن أشياء ونرفض أشياء أخرى، ويعني هذا أن قبول أو رفض شيء ما سواء كان صحيحاً أو خاطئاً، جميلاً أو قبيحاً، خيراً أو شريراً، لا يعتمد على قرار نتخذه عن طريق الموازنة العقلية والاستدلال والبرهان، بل يعتمد على طبيعتنا البشرية التي هي في الأساس إحساسات ومشاعر. والهدف الأساسي هو اكتشاف الإمكانات والتوجهات الكامنة في الطبيعة البشرية وأهم توجهاتها التي تتحكم في سلوك الإنسان ومعرفته ومعتقداته هي: الأحاسيس والعواطف والانفعالات، ولذلك يعلي من شأنها ويعطيها الأولوية على العقل ذاته، بل انه يجعل العقل نفسه خاضعاً لها: "العقل عبد للانفعالات، ولا يمكنه أن يفعل أي شيء سوى أن يخدمها ويطيعها "9
إذا أردنا البحث عن الدوافع الأولى والأساسية للسلوك البشري فيجب علينا الانتهاء حتماً إلى الإحساس والعاطفة والانفعال لأن العقل لا يمكن أن يشكل دافعاً للسلوك. فهو يرى إن العقل الإنساني ليس سوى ملكة منظمة لما يتلقاه الإدراك من انطباعات على المستوى المعرفي، أو ما تتلقاه النفس الإنسانية من لذة وألم. لكنه يبقي للعقل دورا تنظيميا محدودا ويصر على أن العقل والمنطق ليس له دور كبير في حياة البشر وسلوكهم. كما أن دوره متواضع في مجال الاعتقاد، ولا يمكن للبشر أن يسلكوا ويستمروا في الحياة بدون اعتقاد، فالبشر يمارسون الاعتقاد كل يوم وفي كل وقت، وهذا أكبر دليل على أن العقل لا يشكل دور كبير في الاعتقاد الذي يتبناه الإنسان. كما يطلق هيوم على موضوعات العقل إدراكات، ويقسمها إلى نوعين: الانطباعات والأفكار، ويميز بين الموضوعات التي تدخل العقل على أساس الإحساس والخبرة من جهة والتفكير والاستدلال من جهة أخرى. فتلك الإدراكات التي تدخل بكل قوة وعنف يمكن أن نسميها الانطباعات، وتحت هذه التسمية نفهم كل إحساساتنا وانفعالاتنا وعواطفنا كما تظهر لأول مرة في النفس. وإذا كانت الانطباعات حسية فالأفكار أيضاً حسية، وكل الفرق بينهما أن الانطباعات إدراكات تنطبع على الإدراك الحسي، والأفكار إدراكات تنطبع على العقل. وما ينطبع على الإدراك الحسي يكون قوياً وعنيفاً، وما ينطبع على العقول يكون خافتاً ضعيفاً. والإدراك المنطبع على الإدراك الحسي هو تأثر مباشر للحواس بالأشياء وبالخبرة التجريبية، أما الإدراك المنطبع على العقل فهو مجرد صورة خافتة للأشياء والخبرة. وإذا كان الإدراك الحسي يتلقى تأثيرات قوية من الخارج فإن العقل لا يتلقى إلا صوراً ذهنية عن الادراكات الحسية. إنّ الفارق بين التصوّر والاعتقاد ليس في المحتوى، بل في طريقة إدراكه، وهكذا نعرف أنّ الوجود ليس صفة وليس له فكرة خاصّة به تضاف أو تحذف من فكرتنا عن شيء معيّن نقول عنه: أنّه موجود. فالوجود ليس عنصراً من عناصر فكرتنا عن الأشياء.
لقد كان الهدف الأساسي الكشف عن الطريقة التي يفكر بها الإنسان والتي تتحدد وفق طبيعته، ولأن هذه الطبيعة لدى هيوم طبيعة حسية انفعالية في الأساس، فلقد ذهب إلى أن التفكير غير ممكن إلا بحضور إدراكات في الذهن، وهذه الإدراكات إما أن تكون انطباعات أو أفكار10. لكن هل يرتكز التصور الهيومي للطبيعة على الاعتقاد أم على العادة؟ وكيف أدى إنكاره للسببية في الطبيعة إلى القول بالاحتمال والاسمية؟
يقدم هيوم نظرية خاصة في الجوهر، يرفض فيها أن يكون للجوهر وجود حقيقي في الأشياء ويذهب إلى أنه مجرد طريقتنا نحن في التفكير، وهو يختزل الجوهر إلى الانطباعات. وسبب حضور هذه الفكرة في أذهاننا، هي عادة عقلية في جمع صفات جزئية وأفكار بسيطة ترتبط معاً بعلاقات تحدثها المخيلة، ويطلق عليها اسماً عاماً بهدف امكان التواصل مع الآخرين وإفهامهم ماذا نقصد. وبالتالي فالجوهر ليس سوى اسم كلي لمجموعة من الصفات والأفكار البسيطة. فالمعرفة عند هيوم هي إقامة علاقة بين الأفكار، سواء كانت هذه الأفكار ترجع مباشرة إلى انطباعات الحواس أو كانت ترجع إلى انطباعات التفكير.
إن كل العلاقات التي يمكن أن تظهر بين الأفكار تتمثل في سبعة: التطابق، والهوية، والعلاقات الزمانية والمكانية، والكم أو العدد، ودرجات الكيف، والتضاد، والسببية. ويقسم هيوم هذه العلاقات إلى نوعين: الأول يعتمد حصرياً على الأفكار التي تقارنها ببعضها البعض، وذلك مثل التطابق والتضاد ودرجات الكيف وأعداد الكم. أما النوع الثاني فيعتمد على شيء من الاستدلال مثل الهوية والعلاقات الزمانية والمكانية والسببية. فعلى سبيل المثال فإن السببية لا تعتمد على إقامة مقارنة بين فكرة وأخرى بل تعتمد على استدلال من السبب إلى النتيجة أو العكس. والاحتمال هو الاستدلال من افتراضات، وينقسم إلى نوعين: نوع يؤسس على الصدفة ونوع ينشأ عن الأسباب. فكل استدلال يبني على وجود شيء بالصدفة يتصف بأنه احتمالي وعشوائي، والاستدلال المؤسس على الأسباب أيضاً احتمالي عال، لأنه يفترض أن الحالات التي تثبت فيها صلة بين سبب ونتيجة سوف تتكرر، أو أن السبب الذي أحدث نتيجة في الماضي سوف يحدث نفس النتيجة في المستقبل، لكن ليس هناك ما يؤكد لنا هذا الانتظام (الحتمي) بين السبب والنتيجة في الحالات التي لم تخضع بعد للتثبت التجريبي. لكن كيف أدى تبرير الاعتقاد من الناحية الفلسفية إلى الإقرار بأهمية الدين الطبيعي إلى جانب الدين المدني؟
خاتمة:
من المعلوم أن الطبيعة تدل على كل ماهو مدرك perceptible وكل ماهو متصور concevable وتتعارض مع ماهو صناعي artificiel مثل الأشياء التي أنتجتها البراعة الإنسانية ومع ماهو ماورائي surnaturel مثل الأحداث الخارقة للعادة التي تقع في الحياة الإنسانية عن طريق القدرة الإلهيةgrâce divine 11. إذا دققنا أكثر وعدنا إلى المعجم الفلسفي نجد ما يلي: الطبيعة Nature والطبيعي Naturel والمذهب الطبيعي Naturalisme.
من جهة أولى الطبيعة Nature تمتلك دلالات متعددة تتعلق إما بطبيعة كائن معين وإما بالطبيعة بصفة عامة (بوصفها مجموع الكائنات). فهي المبدأ principe الموجه في تطور كائن معين حيث يقترن الفيزيس phusis بالبذرة عند الإغريق. هنا تتعارض الطبيعة من حيث هي سببcause أو عقل مع الفن أو مع التقنية. بعد ذلك نجد الماهية Essence التي تفيد مجموع من الخصائص التي تعرف كائنا يكون مطابقا مع نوعه. من هذا المنظور نجد الطبيعة البشرية حاضرة في كل إنسان. غير أن هذا التصور المتداول تم تهفيته من طرف الأثنولوجيا والبسيكولوجيا والماركسية والوجودية برفضهم أسبقية الماهية على الوجود. كما نعثر على الإنسان الطبيعي l’ homme de la nature عند جان جاك روسو يتعارض مع المواطن في الحالة المدنية، وبالتالي كل ماهو فطري أو تلقائي في النوع يتعارض مع الثقافة، ويتعارض أيضا مع الوحي révélation والرحمة Grace التي يذكرهما قاموس التيولوجيا.
المعنى الخاص والدقيق للفظ الطبيعة يشير إلى الطبائع الخاصة بفرد معين التي تميزه عن غيره وتعني الطب عcaractère أو المزاجtempérament والجانب المورفولوجي والمكونات البيولوجية.
من جهة ثانية الطبيعة هي مجموع الأشياء (الحيوان والنبات والتراب) الخاضعة لقوانين عامة جعلها أرسطو متعارضة مع الصدفة تحديدا. هذا المعنى يتم تخصيصه على النحو التالي:
- مجموع مخلوقات الله في المنظور الإيماني وكل ماهو موجود حسب منظور غير ديني، أي مجموع الكائنات الخاضعة للسببية التي تكاد أن تكون ميكانيكية بالتعارض مع الحرية أو الروح.
- العالم المرئي الذي نسكنه من حيث هو متعارض مع النظام العاطفي والروحي والفكري ومابعد الطبيعي الذي يظل محتجبا عن أنظارنا وغير مدرك حسيا.
- يمكن اعتبار الطبيعة، بالقياس إلى أن كل كائن مطالب بأن يحقق ماهيته، المبدأ المعياري الذي اتبعه ذلك الكائن. من البديهي أن نذكر في هذا الإطار قوانين الطبيعة من حيث هي قوانين كونية والتي لا تمثل القوانين البشرية سوى محاكاة خصوصية لها. كما يبدو من المنطقي أن تتضمن الحركة المضادة للطبيعة الكثير من الانحراف والفساد والانتقام في المعجم التحليلي النفسي.
في الحقيقة، "يشير لفظ الطبيعة إلى معان مختلفة، فبالمعنى الفيزيائي والفلكي الطبيعة هي الكون بما يتضمنه من أفلاك وظواهر متنوعة تخضع لقوانين ثابتة وضرورية. والمقصود أيضا بالطبيعة أصل الشيء وجوهره وكنهه، مثل قولنا: طبيعة الماء وطبيعة النفس الخ. ويعني لفظ الطبيعة الفطرة والغريزة، وهو بهذا المعنى مقابل للثقافة والحضارة. وللطبيعة معنى رومنطيقي وهو الذي نعنيه عندما نشير بهذا اللفظ إلى الغابات والبساتين والمروج وكل ما يبعدنا عن صخب المدينة وضوضائها."12
أما الطبيعي Naturel فيستعمل في كل معان كلمة الطبيعة ويتعارض مع المكتسب والمنعكس والصناعي والإنساني والإلهي والموحى به وماوراء الطبيعي والأسطوري وغير السوي. يمكن أن نذكر على سبيل المثال الحق الطبيعي الذي يستخلص من حالة الطبيعة ويتعارض مع الحق الوضعي. وكذلك نذكر عبارة الدين الطبيعي المستعملة بكثرة في القرن 18 والذي يرتكز على بالعقل ويتحاور بشكل مستقل وندية مع الوحي.
في حين أن المذهب الطبيعي Naturalisme يدل في الحقل الجمالي والفني على التصور الذي يأخذ بمقتضاه الفنان الطبيعة كنموذج في عمله سواء كان رسما أو نحتا أو نثرا. كما تم تطبيق المصطلح على التيارات الفلسفية التي تنفي وجود ماوراء الطبيعة من غيب وروحانيات وكل مبدأ متعال وكل قيمة أو حقيقة من طبيعة مغايرة لما يظهر في التجربة. علاوة على ذلك ينفي المذهب الطبيعي كل خلق الهي وكل عناية إلهية ويثبت طيبة الطبيعة ويفسر تطور المجتمع بالاعتماد على قوانين طبيعية ويعتبر حالة الطبيعة بوصفها عصرا ذهبيا مرجعا للسلوك البشري. لكن تقع معظم القواميس في حلقة مفرغة ودور لغوي عقيم حينما تعرف الطبيعة بمجموع الأشياء الموجودة بشكل طبيعي وتحدد الأشياء الطبيعية بواسطة الطبيعة13.
الإشكال يظهر حينما تكون الطبيعة من جهة مستودع الخيرات والمنافع الكفيلة بإشباع البشر وترضيتهم ولكنها من جهة أخرى قد تتحول إلى مصدر تهديد وعنف وقسوة نتيجة تقلبات مناخية وحركية جيولوجية.
علاوة على ذلك تجد الفلسفة نفسها في مواجهة تحدين:
- تعريف الكائن البشري من وجهة نظر الطبيعة (البحث في ماهيته وفكرته أو دراسة الجانب الطبيعي منه والغريزي والجسماني).
- تعريف الطبيعة من وجهة نظر الكائن البشري (البحث في بنيتها ونظامها الكوني أو دراسة الجانب الروحي والعاطفي منها). فما السبيل المؤدي إلى تجنب الوقوع في مثل هذا الدور؟
اضف تعليق