تسير الأمور في الإقليم الشرق أوسطي وبعض دول الجوار نحو مزيد من التشدد والإنغلاق والتعصب والإبتعاد عن الديموقراطية لصالح الحكم الدكتاتوري المطلق في عالم يزداد إزدحاماً بالبشر وتتناقص موارده الطبيعية تدريجياً وبصورة متسارعة.
وهذا الإزدحام السلبي في العلاقة بين الموارد المتناقصة والطلب المتزايد قد خلق شعوراً بالقلق والتنافـس الصامت على تلك الموارد وفي أحيان أخرى أدى ذلك إلى الإقتتال الدموي. وأصبحت المواطنة والإنتماء لوطن ما تعبيراً عن إمتلاك حق الأولوية والأفضلية في الحصول على الموارد الوطنية والإنتفاع بها، وأصبحت المواطنة تعبيراً عن هذا المفهوم بشكل متزايد.
ما نحن بصدده حديثاً لا يقتصر على شح الموارد وزيادة السكان، بل هو محاولة لفهم وإستيعاب المسار الذي ستذهب إليه الأمور ومدى تأثير ذلك على رؤية العالم لنفسه في العقود القادمة وعلى العلاقات التي ستربط الشعوب والدول بعضها ببعض.
العالم، على ما يبدو، يسير نحو حالة متفاقمة من الإحتقان الذي يترجم نفسه في قلاقل وحروب تسعى إلى تفجير الوضع القائم وقتل وتهجير السكان من كيانات قائمة ولكن ضعيفة تمهيداً لخلق كيانات جديدة على أنقاضها تكون أصغر وأضعف، مبعثرة وغير قادرة على التصدي للدول الكبرى ومخططاتها وبالتالي تعيش حالة من الخنوع والقبول بالفتات إلى الحد الذي قد تتنازل فيه عن مواردها وربما مصالحها لصالح القوى الكبيرة النافذة.
إن إزدحام العالم بشكل يفوق طاقته وموارده الطبيعية قد جعل من دولة الرفاه التي تسعى إلى توفير كل شيء لمواطنيها وتقديم الرعاية الطبية لهم بشكل يطيل من عمر المواطن الفرد عِـبـْئاً على تلك الموارد المتناقصة وأصبح من الصعب الإستمرار في سياسات الرخاء تلك أو تبريرها إلا إذا إقترنت بإستنزاف موارد دول أخرى أضعف وأقل قدرة على حماية مصالحها.
وهكذا وكـَحَلٍ لمشكلة التعارض بين تناقص الموارد الطبيعية ومتطلبات مجتمعات الرفاهية والعناية الطبية، لجأت المجتمعات المتقدمة والقوية تكنولوجياً وعسكرياً ضمن النظام الدولي القائم حالياً إلى خيار إستغلال المصادر الطبيعية للدول الصغيرة والضعيفة وإستقطاب المصادر البشرية المؤهلة تأهيلاً عالياً وإقصاء من هم دون ذلك بإعتبارهم عبئاً وحمولة زائدة.
العالم على ما يبدو يسير في إتجاه تكريس نظام دولي يتجاوز الدولة الوطنية إلى مجتمع دولي مرتبط بالقدرة على استنباط التكنولوجيا والسيطرة عليها من جهة والتعامل الكفؤ مع موارد متناقصة تفرض عليه تخصيص مزيد من تلك الموارد للعناصر المؤهلة والمنتجة كأولوية مطلقة دون غيرها، من جهة أخرى. وتـَعَامـُلْ الغرب مع دول مثل ليبيا والعراق والعديد من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية يعكس شعوراً خفياً بأن الثروات الطبيعية لهذه الدول هي شيء لا تستحقه وأن مُصَادَرَة تلك الثروات وعوائدها سواء مباشرة أو بطريقة غير مباشرة هي من حقوق الغرب والمجتمعات النامية تحديداً.
ومن هذا المنطلق تقوم دول كبرى مثل الولايات المتحدة بإستقطاب علماء ونوابغ دول أخرى وهم جزء هام من ثروتها الوطنية وإضافتهم إلى مجتمعاتها كما حصل مع علماء ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية وعلماء العراق عقب حرب الخليج الأولى والثانية وكما يجري الآن من خلال الإغرءات المالية والبحثية حيث يتم إستقطاب طبقة العلماء من الدول النامية ومنحهم الجنسية الأمريكية أو جنسيات دول غربية أخرى.
إذا كان هنالك من حديث عن يوم القيامة أو يوم الحشر بالمفهوم العام وليس اللاهوتي فنحن نقترب منه بخطى حثيثة وذلك عندما تعجز الأرض بمواردها المتناقصة وسمائها وبحارها الملوثة عن استيعاب الأعداد المتزايدة من البشر، وعندما تصبح قدرة البشر أو رغبتهم في تطبيق مفاهيم العدل والمساواة في ظل التنافس على الموارد المحدودة، جزءً من الماضي.
الحل البشري التقليدي والبدائي لمعضلة الإزدحام هو الحرب. ولكن التكنولوجيا ووسائل الإتصال والتواصل جعلت من الحروب طاقة سلبية مرفوضة ومن تبعاتها قضية إنسانية وأخلاقية تتخطى الحدود، وجعلت من سهولة وسرعة إطـِّلاع العالم على الدمار الذي تسببه تلك الحروب سبباً للغضب الإنساني والتعاطف الذي قد يشكل بحد ذاته أداة ضاغطة فورية ضد ما يجري من إقتتال ودمار.
هذا هو الواقع كما نعرفه. ولكن ما نحن مقدمون عليه سوف يُلقي بكل هذه المفاهيم الإنسانية جانباً لصالح منظومة جديدة تعتبر أن التفوق الإقتصادي والتكنولوجي والكفاءة العلمية والقدرة على الإنجاز هي الرابطة الأهم بين البشر وليس القومية أو الوطن وهي بالتالي المقياس الوحيد المقبول وأساس الحكم على عدالة هذا الموقف أو ذاك حتى ولو كان ذلك الموقف حرباً ضروساً أو تفتيتاً لشعب أو أمة إذا كان في ذلك خدمة لمجتمع الإستحواذ والذي يتعامل مع العالم وموارده كوحدة واحدة دون أي إعتبار للقوميات أو الدول.
العالم يسير الآن في إتجاه إستقطابي يجمع ما بين القابضين على مكامن القوة والتكنولوجيا والإقتصاد وأولئك اللذين يفتقرون إليها. وهكذا، أصبح العالم مهيئاً لتغيير استراتيجي غير مبني على الإيديولوجيات أو القوميات بل على القدرة على التعامل مع حقائق ومعطيات تسعى إلى تكريس التفوق بأشكاله المختلفة وربطه بحق الأولوية في الإستفادة من الموارد المتناقصة على مستوى العالم. وهكذا فإن العالم بموارده سوف يكون حِكـْراً على الناجحين والمتفوقين وعلى باقي البشر الإكتـفاء بقبول ما يُعطى لهم من فـُتات.
أُخـُوة الإنسان التي نادي بها الكثيرون وترجم معانيها الموسيقار بيتهوفن بإبداع في القرن الثامن عشر في سمفونيته التاسعة هي بعيدة حالياً عن فكر العديد من الأمم. والغرب يتغنى بها الآن كموسيقى أكثر منها كمعاني ومدلولات إنسانية. الإنسانية كإصطـلاح شامـل ذا مدلـول حضاري فـَقـَدَ معظم قـِيَمَـه أمام وحشية التنافـس على الموارد، وأُخـُوة بني آدم الرومانسية فقدت معناها أمام الإقتتال على المصالح، وإبتدأ العالـم يقتـرب من أصوله المتوحشـة في إقتتـال وتنافـس لا ينتهـي على الموارد والمصالـح.
وعَكَـَـسَ هذا الإقتتال العالمي نفسه على كافة الكيانات الصغيرة وأصبح من يملك يحرص على منع من لا يملك أن يأخذ شيئاً من حصته في الموارد، كما أصبح من يحكم لا يريد أن يشاركه أحد في الحكم إلا برضاه ورغبته وحسب شروطه. ولكن الأمور تسير في إتجاه مختلف الآن. فمستقبل السيادة الوطنية على الموارد الطبيعية أصبح أمراً مشكوكاً به في ظل توجه القوى الكبرى في العالم لإعتبار الموارد الطبيعية ملكاً للبشرية بالطبع بإستثناء مواردها.
إن هذا الكلام لا يعني حتمية تفسير وفهم الأمور في إطار تقليدي يصنف الأمور إما إستعماري أو إمبريالي أو ثوري تحرري، بقدر ما يعني وجوب التعامل معها من منظور مستقبلي تـُحَدﱢدْ علاقاتـِهِ مُحَدِدات تختلف عن ما إعتادت عليه الشعوب. والوضع الجديد سوف تـُحَدِدَه عوامل تتجاوز القومية الضيقة إلى العالمية الواسعة والتي تسعى إلى التعامل مع الكرة الأرضية وما عليها من موارد وبشر كوحدة واحدة متكاملة.
الإنسان ينتج الشيء وضده في الوقت نفسه. فهو يسبب المرض وينتج العلاج، ويلوث البيئة وينتج ما ينظفها..... إلخ والإستثناء الوحيد من كل ذلك هو الموارد الطبيعية، فسرعة إستهلاكها يفوق بملايين المرات الوقت اللازم لإنتاجها. وعين الإنسان الحالم كانت دائماً على الفضاء الكوني في محاولة لإيجاد بديل للموارد الطبيعية المتناقصة أو لكوكب الأرض بعد أن يتم إستنزافه وتدمير قدرته على تجديد نفسه، ولكن هذا يبقى ضمن إمكانات التكنولوجيا المتوفرة، حلما يدغدغ عواطف الكثيرين ويشحذ خيالهم.
العالم الآن أكثر وعياً لأهمية المصادر الطبيعية والحفاظ عليها من الاستهلاك التبذيري الجائر وسوء إستعمال عائداتها للإنفاق على أمور تافهة كما يفعل معظم العرب في إستعمال عائدات مواردهم لتعزيز الفساد والنهب والإنفاق الفردي الباذخ...إلخ في حين أن الأمم المتقدمة تراقب مواردها وكيفية إنفاق عوائدها وتوجهها نحو الإنفاق التنموي بدرجاته الثلاث: الفوري والمتوسط والمستقبلي، وتحاسب بل وتعاقب كل من يسيء إستعمال تلك الموارد أو عوائدها.
يسير العالم الآن في إتجاه إعتبار ملكية الموارد الطبيعية ملكية نسبية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالقدرة على حسن التصرف في إدارة تلك الموارد والإبتعاد عن تبذير عوائدها والإمتناع عن الإستغلال الجائر لها بشكل مفرط بما في ذلك الأجواء والمحيطات والأنهار وأعالي البحار والغابات. فالسيادة على الموارد قد تصبح في المستقبل القريب مرتبطة بوصاية دولية تفوق السيادة الوطنية عليها ولا تسمح بالتبذير أو التفريط بتلك الموارد التي سَتـُصَنـَّف على أنها ملك للإنسانية وللأجيال القادمة وليس ملكاً لشعب بعينه يفعل بها ما يشاء، أو لحاكم ما يبذرها كما يريد.
وفي هذا السياق فإن الجهود الملحوظة لإلغاء العروبة كقومية وكهوية وكمدلول سياسي هي خطوة هامة مثلاً نحو إلغاء العرب كأمة وبالتالي تفتيتهم وتحويلهم إلى مجموعات سكانية لا قيمة لها. المشكلة على أية حال ليست العرب فهم فشلوا في أن يشكلوا خطراً على أحد سوى أنفسهم أو بعضهم البعض. المشكلة هي في الموارد التي يملكوها والتي يعتقد الكثيرون أنهم لا يستحقونها.
الإنسان العربي يملك موارد استراتيجية ولكنه لم يبني نفسه ولم يحافظ على تلك الموارد بل إستغلها في أسوأ طريقة ممكنة ونجح بالتالي في الإنحدار إلى أسفل سلم الإحترام بالنسبة للعالم وللقوى الدولية المؤثرة. العرب إذاً في أسفل السُلـَّمْ كبشر وفي أعلى السُلـَّمْ كموارد وهذه أفضل وأهم معادلة للإنتحار الجماعي أو التدمير الذاتي. فعندما تكون الموارد ذات قيمة إستراتيجية عالية وأصحابها من البشر لا قيمة ولا وزن لهم يصبح أمر التخلص منهم أو القضاء عليهم أمراً منطقياً بالنسبة للبعض وذا جدوى بالنسبة للقوى الدولية وله ما يبرره حسب المعطيات المستقبلية التي ستحكم العلاقات بين الأمم والتي لن تقبل التعامل مع البشر بإعتبار أن ما يفعلونه بأوطانهم ومواردها هو حق مكتسب، والتأكيد على أن حماية الأرض ومواردها هي قيمة أكبر من سيادة الشعوب ومن حياة الفرد كونها سوف تصبح مرتبطة بحياة المجموع ومستقبل البشرية والأرض التي تحتضنهم. ومن هنا فإن المستقبل سوف يجعل القيمة الأولى والأهم للحفاظ على الأرض ومواردها، والحقوق الفردية أو الوطنية لن تكون مطلقة ولكن مشروطة بالقدرة على المحافظة على الموارد والبيئة.
الحقوق المطلقة سوف تصبح جزءً من الماضي. ولكن وللأسف سوف تبقى قدرات القوى الكبرى ومصالحها هي السائدة وهي التي تحدد الصح والخطأ. ولكن تبذير الموارد سوف يعطى تلك القوى العذر المـُحِلّْ والأخلاقي لإعادة تقسيم العالم على أسس جديدة لن تكون في صالح الشعوب الأصغر والأضعف. ومن هنا على الشعوب أن تعي بأنها إذا سمحت لحكامها بتبذير مواردها، فإنها تعطي بذلك للآخرين الأقوياء العذر للإنقضاض عليها وتدميرها إذا لزم الأمر تحت عذر الحفاظ على الموارد والبيئة.
اضف تعليق