اعتاد الناس في العراق على سماع اخبار جديدة – قديمة، عن استلام هذا الوزير او ذاك النائب او المدير العام لرواتب تقاعدية بملايين الدنانير، كما لا يجدون غضاضة من استمرار الرواتب المليونية مع الامتيازات المختلفة لمن هم خلف مكاتبهم، حتى بلغ الأمر أن يسامح الناس هؤلاء على ابتلاعهم الاموال الطائلة، مقابل إنجازهم المهمام الموكلة اليهم، لاسيما ما يتعلق بالخدمات العامة، فضلاً عن المشاريع الحيوية والاستراتيجية التي لا مكان لها في الذهنية العامة ولا الرأي العام، لذا فان مبلغ حوالي ثلاثة مليار دولار من وارد العراق لشهر تموز الماضي فقط من النفط، لن يحرك مشاعر الحاجة الى التنمية والتطوير.
تصاعد الازمة المالية
لاحظ المراقبون المهتمون بالشأن الاقتصادي اهتمام مؤسسات الدولة بالزراعة والصناعة، ولو بشكل خجول، مع تصاعد حدّة الازمة المالية التي ضربت العراق على خلفية الانخفاض الشديد لاسعار النفط، فتراجع معه استيراد المحاصيل الزراعية وبدأ الحديث عن تشغيل المصانع ودعم المشاريع الانتاجية وتفعيل الاستثمارات الداخلية والخارجية، فهل هذا يكفي لرؤية اقتصادية مستقبلية في عالم سريع التغيّر وشديد التعقيد والتشابك بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي وما هو أمني؟.
العلماء في هذا الجانب لا يتحدثون فقط عن ضرورة إحياء الزراعة والصناعة والاكتفاء الذاتي، التي يفترض ان تكون من بديهيات التنمية ومن صميم الدوافع الانسانية للخلاص من الازمات الخانقة، بل يذهبون الى ما هو أعمق من هذه المفاهيم، حيث الحفاظ على الثروات الطبيعية وعدم التفريط بها.
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في كتابه "كل فرد حركة وفلسفة التأخر" ينبه الى حقيقة وجود الثروة "الدورية" مثل الماء والخشب والتراب التي تمتاز بالاستدامة، عكس الثروة غير الدورية المعرضة للنفاذ والتناقص، مثل المعادن ومنها النفط والغاز والحديد وغيرها، ويوصي سماحته "بتشكيل لجان بإدارة الاستهلاك من الموارد الدورية، إذ ان الاستهلاك من الثروة غير الدورية، إجحاف بحق الاجيال الآتية، مثلاً؛ يمكن البناء بالطين والخشب، وهما دوريان، فلماذا يستهلك مثل الحجر والحديد، وهما غير دوريين"؟ وبالامكان ايجاد مصاديق عديدة على فكرة الامام الراحل في الغرب، بعزوف الشعوب هناك عن الاستخدام المفرط للحديد والاسمنت وسائر انواع الحجر لتشييد الابنية، السكنية منها والادارية، يكفي ان نلاحظ دخول مادة الخشب في عموم المباني في اوربا و اميركا وبلاد اخرى، اكثر من الحديد والخرسانات المسلحة كما هو الحال عندنا في العراق.
وهذا يصدق ايضاً على مياه الامطار قبل المياه الجوفية، والعمل الجدّي في أمر الطاقة البديلة التي باتت حديث الخبراء والمؤتمرات الدولية في العالم، وذكر سماحته بأن دولة في العالم استهلكت من المياه الجوفية خلال عشر سنوات ما يمكن الاستفادة منه خلال سبعين عاماً!.
وللعلم فقط؛ فان البيوت السكنية في استراليا ترتبط بشبكة واسعة من مجاري مياه الامطار، بحيث تنساب مياه الامطار من سطح البيوت مباشرة الى هذه الشبكة بحيث لن تكون ثمة سيطرة لصاحب الدار على هذه المياه، كما لو أنها تشكل ثروة وطنية او ملك عام!. بهذه الطريقة توفر استراليا، وهي جزيرة كبيرة وسط المحيطات المالحة، مصدراً من مصادر المياه العذبة للشرب وايضاً لسقي الاراضي الزراعية الشاسعة وتنمية الثورة الحيوانية لديها، ولنلاحظ الوضع في العراق؛ حيث ينساب على ترابه نهرا دجلة والفرات، مع أمطار موسمية واحياناً شديدة، ثم يعاني أزمة مياه الشرب والسقي، وهو الذي يحظى بمساحات خصبة لا بأس بها في الوسط والجنوب، وايضاً في بعض المناطق الشمالية.
الطاقة المتجددة هدية للأجيال القادمة
ربما يكون من الصعب تخيّل الاوضاع التي تكون عليها الاجيال القادمة عندما تشارف آبار النفط على النفاذ، او يتعرض النفط نفسه الى تحديات خطيرة، كالتي نشهدها اليوم من انخفاض شديد ومفاجئ في الاسعار، وما لا نشهده اليوم، من احتمال تراجع الحاجة الى هذه المادة في أمور الطاقة في البلدان المتقدمة، كما توقع ذلك العديد من الخبراء في اقتصاديات النفط، لان بلدان مثل العراق، اعتادت على توفير مستلزمات العيش فيها بالاعتماد على أموال النفط، مثل وسائل النقل والمواد الانشائية والمواد الغذائية والالبسة وسائر السلع الاستهلاكية، وعندما يكون هذا البلد على حافة الإفلاس الحقيقي، فانه سيفقد الكثير من الاشياء التي يتمتع بها في الوقت الحاضر.
فاذا كانت هنالك بلدان نفطية تخشى من مستقبل النفط، فان العراق يجب أن يكون الاكثر اطمئناناً لما يحظى به من مقومات التنمية المستدامة والعيش الكريم، مع الاعتماد القليل على المعادن والنفط والغاز، فالى جانب الزراعة التي كثر الحديث عنها، على العراقيين التفكير جدّياً في أمر الطاقة المتجددة للحاق ما أمكن بركب الدول المتقدمة في هذا المجال، والتي تفكر من خلال ذلك، الى الاستغناء عن النفط والغاز المستورد من بلادنا، وهذا بحد ذاته دافع جديد يحثّنا على التفكير برؤية مستقبلية.
والمثير في أمرنا – حقاً- أننا نمتلك المقومات الأساس للحصول على الطاقة المتجددة بكل سهولة، لوجود الشمس والمياه والرياح في بلادنا، بيد أن الامر بحاجة الى تخطيط واستثمار وتنفيذ بشكل جدّي والاستفادة من تجارب الآخرين في هذا المجال، مثال ذلك؛ المانيا التي تقدمت بين دول العالم في استثمار الطاقة المتجددة، فمن الرياح فقط، تمكنت من انتاج 20ألف ميغاواط من الطاقة الكهربائية، وهكذا تفعل العديد من دول العالم المتقدمة في هذا المجال، ليس هذا وحسب، بل ان هذا البلد الذي لا يحظى بأشعة الشمس طيلة ايام السنة كما هو الحال في العراق، فانها متفوقة ايضاً في انتاج الالواح الضوئية على مستوى الاستخدامات المنزلية.
والحديث في هذا المجال يطول، لان الطاقة المتجددة في العالم تتسلل يومياً الى الحياة العامة لبعض الشعوب المتقدمة التي لا تفكر بالاستهلاك اليومي بقدر ما تتطلع الى المستقبل الأفضل، فالقضية تتجاوز ميدان الاقتصاد والمال، لتصل الى ميدان البيئة والصحة وسلامة الانسان، عندما تظهر بين فترة واخرى سيارات "صديقة للبيئة" وللانسان ايضاً، تعمل على الطاقة الشمسية او الطاقة الكهربائية، والفارق فقط في مسألة السرعة، وهذا ينعكس مباشرة على البيئة وعلى سلامة الانسان وتراجع الحالات المرضية الناشئة من الغازات السامة التي تنشرها عوادم السيارات.
ان النخبة السياسية الحاكمة عليها أن تدرك حقيقة عجزها عن ضمان استمرار تدفق الاموال على الوزراء والنواب والمدراء وعلى سائر الموظفين في الدولة الى أمد غير محدود، فان كانت ثمة موارد مالية من النفط وسائر المعادن، فانها يجب ان تصب في انتاج هذه الطاقة الحيوية التي لن تكلف الخزينة كثيراً، بل ربما يأتي اليوم الذي لن تكون فيه الدولة مجبرة على إنفاق المليارات من اموال النفط لتوفير الطاقة الكهربائية والوقود، وإن كانت ثمة حاجة الى النفط وسائر المعادن الثمينة فانها تُصب في مشاريع تنموية واستراتيجية مثل الطرق والمواصلات والبنية التحتية بشكل عام.
اضف تعليق