أمضى العرب أربعة عشر عاماً في محاولات دؤوبة لإقناع إسرائيل بقبول بمبادرتهم للسلام معها من دون جدوى... لم يضجروا ولم يملوا... لم يسحبوا المبادرة ولم يعملوا على تسليحها بالأنياب والأظافر... وبدل أن تعلق تل أبيب في شباك مبادرتهم، علقوا هم أنفسهم في شباكها، حتى أن بعضهم بدأ التفكير جدياً، في إعادة تكييفها لتنسجم مع مقاسات الائتلاف اليميني، القومي الديني، الحاكم في إسرائيل.
التطبيع الكامل نظير الانسحاب الشامل، وتالياً له، هذا هو المبدأ الذي قامت عليه المبادرة... اليوم، تجري فعلياً إعادة صياغة هذا المبدأ، إذ نرى التطبيع يتقدم، ويجذب إليه دولاً عربية عديدة، مع أن "ترويكا التطرف نتنياهو – ليبرمان – بينيت"، لا تتوانى لحظة واحدة في بناء المستوطنات وتوسيعها وتشييد الجدران، وتدير ظهرها لكل المبادرات والجهود الرامية وضع حدٍ لاحتلالها المديد والمرير للأراضي الفلسطينية والعربية.
وبخلاف ما يزعم "المطبوعون العرب" بقولهم إنهم يفعلون ذلك دعماً لأشقائهم الفلسطينيين ونصرة لقضيتهم، وأحياناً تبلغ الوقاحة حد القول: بطلب منهم، فإن "هرولة" بعض الحكومات العربية لتطبيع أو توثيق علاقاتها مع إسرائيل، انما ينبع من حسابات أنانية خاصة بها، لا صلة لها من قريب أو بعيد، بفلسطين وحقوق شعبها، بل وغالباً بما يسيء لقضية الشعب الفلسطيني ويلحق أفدح الضرر بنضاله من أجل الحرية والاستقلال.
كل من يريد "شهادة حسن سير وسلوك"، بات يتعين عليه "الحجيج" صوب إسرائيل، وإلى القدس المحتلة، التي لم يعترف العالم بكونها عاصمة لإسرائيل، فيما بعض العرب، لم يعودوا يترددون عن إجراء اللقاءات الرسمية والمحادثات الثنائية، وتناول الغداءات والعشاءات في المدينة الفلسطينية المحتلة... كل من يسعى لكسب ود إسرائيل، وتوظيف نفوذها في الولايات المتحدة وأوروبا، يسير قوافل الزائرين والموفدين إليها، ودائما بذريعة نصرة الشعب الفلسطينية، أو في محاولة لإقناع قادة تل أبيب بالمبادرة العربية للسلام، وفقاً للتبرير الساذج الذي عرضه الجنرال السعودي المتقاعد، أنور عشقي، لزيارته غير المسبوقة إلى إسرائيل، ودعوته من التقاهم هناك، لرؤيتهم في الرياض عمّا قريب.
قبلها كانت المبادرة المصرية، وزيارة سامح شكري للقدس المحتلة، تلك الزيارة التي وضعتها بعض المصادر الإسرائيلية في مصاف زيارة السادات للقدس... مع كل ما أثارته من تساؤلات حول جدوى مثل هذا التحرك وحدوده، وما الذي يمكن أن تنتهي إليه الدبلوماسية المصرية، وهل لدى القاهرة من أوراق القوة ما يمكنها من إقناع إسرائيل أو إرغامها على الجنوح لخيار السلام، وهل الزيارة حاجة فلسطينية في الأساس، أم حاجة مصرية، للتعمية والتغطية على مواضيع أخرى وملفات مفتوحة، تؤثر على علاقاتها بالمجتمع الدولي، وتحديداً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتحديداً في مجالات حقوق الانسان والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
أدرك العرب كيف يلجمون الانتقادات الغربية لحكوماتهم، وعرفوا أن كسب الرضا الإسرائيلي، كفيل بإخراس كثير من العواصم الدولية، وكف ألسنتها عن انتقاد أبشع الانتهاكات لحقوق الانسان في زمن الحرب والسلم... عرفوا أن الطريق لعزل إيران ومقاومة نفوذها المتمدد، يتطلب في مرحلة من المراحل، مد اليد لتل أبيب وطلب العون منها... لكنهم يفضلون أن يفعلوا ذلك، تحت وابل كثيف من الشعارات الوطنية والقومية الزائفة، عن فلسطين وأهلها ومركزية قضيتها وغير ما هنالك من أقوال لا تسندها الأفعال أبداً.
والمؤسف، أن بعض العرب، يجدون في بعض الفلسطينيين، من هو جاهز لتوفير البضاعة وتقديم التغطية، ولأسباب انتهازية رخيصة في غالب الأحيان... فيصبح التطبيع مع إسرائيل، زيارة للسجين وليس للسجان، وتصبح اللقاءات مع دوري غولد، خدمة جليلة لشعب فلسطين وشعبها... وتصبح المصالحة التركية – الإسرائيلية، عملاً من أعمال "المقاومة والممانعة"... على الرغم من أنك لن تجد فلسطينيا واحداً يجادل ضد "المقاطعة" ولا يعتبرها أحد أمضى الأسلحة في مواجهة الاحتلال والاستيطان والعدوان.
اضف تعليق