انتهى الانقلاب العسكري الذي قام به بعض من عناصر الجيش التركي يوم 15/ تموز/يوليو 2016 بالفشل، إلا أن تداعياته لم تنتهي بعد. إذ ما يزال الجيش التركي والمؤسسة العسكرية والأمنية والاستخبارية برمتها تتعرض لحملة اعتقالات والتصفية السياسية على خلفية الانقلاب.
وقد طالت موجة الاعتقالات كل مؤسسات الدولة التركية المدنية والعسكرية، لاسيما القضاة والتعليم العالي من (اساتذة ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات والموظفين)، فضلاً عن وزارة التربية وغيرها من الوزارات الأخرى، وبلغ تعداد الذين تم اعتقالهم في غضون ثلاثة أيام بين عسكري ومدني بحدود الـ (50) الفاً لحد الآن، وربما العدد أكثر من ذلك أو سيزيد في الأيام القادمة.
وتشهد الدولة التركية حملة اعتقالات يشنها الجيش واجهزة الاستخبارات وقوى الأمن الداخلي ضد الانقلابين أو من يتهم بدعمه أو مشاركته في الانقلاب أو كل من له صلة سواء من قريب أو من بعيد بالداعية (فتح الله كولن)، المتهم بوقوفه وراء الانقلابين. فقد استمرت تداعيات الانقلاب لتتجاوز العسكر وتصل إلى الجسم الحكومي (التعليمي والتربوي). إذ تم اعتقال وتسريح ما بين 50 الف بين عسكري وموظف حكومي حتى الآن، فقد اوقفت وزارة التعليم العالي التركية 15،200 الف موظف عن العمل، أما مجلس التعليم العالي فقد طالب بإقالة 1500 من عمداء الكليات، وتم تسريح بحدود 15 الفاً من موظفي وزارة التربية، فضلاً عن إقالة جميع رؤساء الجامعات، وقد اوقفت وزارة الأسرة 400 موظف عن العمل، كذلك تم تسريح 260 موظفاً من رئاسة الحكومة ونحو 490 من إدارة الشؤون الدينية، وقد أقال جهاز الاستخبارات 100 موظف على خلفية محاولة الانقلاب، واعتقال أكثر من 9000 عسكرياً، فضلاً عن لوائح طويلة طالت القضاء والأمن والمالية وما تزال عمليات الاعتقال والعزل جارية في اجهزة الدولة التركية ومؤسساتها المدنية والعسكرية. وقد مُنع جميع الأكاديميين من السفر خارج تركيا، وتم عزل اربعة رؤساء جامعات لحد الآن.
هذه الاعداد البشرية التي تراوحت بين الاعتقال والاتهام والتسريح من العمل الحكومي في وزارات الدولة التركية في غضون ثلاثة أيام تضع أكثر من علامة استفهام على هذا الانقلاب وواقعيته والاجراءات الامنية والملاحقات التي طالت وتطال كثيرين. ولهذا ربما شكك البعض بصحة هذا الانقلاب؛ لأن اعتقال كل هذه الاعداد البشرية وبسرعة قياسية تثير الشكوك بصحة الانقلاب، وقد تتعداه إلى مرحلة تصفية حسابات واستهداف سياسي من قبل الرئيس التركي وحزبه الحاكم إلى خصومه السياسيين والمدنيين. وقد تكون القوائم (قوائم المستهدفين في هذا الانقلاب) معدة سلفاً، وهذا ما قاله "جواد كوف" مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية في اسطنبول بأن هناك هيئة رسمية موظفة كانت قد شّكلت من قِبل الحكومة التركية قبل الانقلاب لإعداد الاسماء والاشخاص الذين ينتمون للداعية (فتح الله كولن) في كل مؤسسات الدولة التركي، وهذا يعني بأن الاسماء معده سلفاً من قبل السلطات التركية.
ولهذا ربما يكون هذا الانقلاب محاولة من قبل الرئيس التركي من اجل تصفية خصومه، وتعبيد الطريق أمامه لإجراء تعديلات دستورية تجعله رئيساً لتركيا لأطول فترة ممكنة. وازالة العوارض السياسية والأمنية من أمامه، من خلال زج كبار العسكريين الموالين له في صفوف الأمن، وازالة كبار الموظفين والأكاديميين والقضاة والمثقفين الذي رفضوا سياسة اردوغان في السابق لأخونة تركيا، ولاسيما رؤساء الجامعات وعمداء الكليات الذين لم ينس لهم أردوغان قبول المحجبات للدراسة. ولهذا ربما يكون الانقلاب مجرد ستار يبرر حملة اردوغان في عملية الاجتثاث الواسعة في مختلف المؤسسات والوزارات التي طالت الآلاف من خصومه أو من الذين عرفوا بعدائهم لحزبه وأفكاره. ويعتقد البعض أن تركيز الرئيس التركي على اتهام خصمه "كولن"، هو بهدف حرف الانظار عن حملة أوسع تشمل أيضاً خصومه من العلمانيين مستفيداً من سكوت الاحزاب السياسية بعد هذه الحملة.
الرئيس التركي قدم عدة تنازلات على الصعيد الخارجي قبل هذا الانقلاب، تتعلق باعتذاره لروسيا عن حادث إسقاط الطائرة الروسية فوق الأراضي السورية، وإعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل (التي قطعها بعد حادثة سفينة مرمرة)، وتخليه مؤخراً عن حلفائه من التنظيمات الإرهابية والمتطرفة في سوريا والعراق، وتلميحه بقبول بشار الاسد رئيساً لسوريا للفترة الانتقالية وترك أمره من بعد إلى الشعب السوري ليقرره في الانتخابات القادمة، كذلك نيته عن تسوية المشاكل مع العراق وإعادة العلاقات مع سوريا.
وهذه جميعها تنازلات استراتيجية تدخل ضمن التسويات الإقليمية والدولية إلا أنه "اردوغان" لم يقدم تنازلات تتعلق بالداخل التركي من أجل سعيه لتعديل الدستور للحصول على مكتسبات رئاسية أكبر. وربما يكون ذلك وراء الانقلاب العسكري الفاشل. هذه التحركات والتسويات تذكرنا بتحركات والتطمينات التي اعطتها جماعة "اخوان المسلمين" في مصر بعد تولي مرسي رئاسة الجمهورية إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى. إلا أن أردوغان الذي يسعى لأخونة الدولة التركية طوال السنوات الماضية عبر "التمكين الديمقراطي" كان أكثر ذكاءً من سياسة التمكين التي اتبعها الاخوان في مصر، رغم التنازلات التي قدموها للولايات المتحدة وإسرائيل.
وأن سياسة اردوغان في اخونة الدولة التركية عبر التمكين الديمقراطي لم تعد سياسة مخفية، بل أن سياسته واضحة بهذا الاتجاه، وقد وجد الرئيس التركي ضالته بهذا الانقلاب لاستهداف كل خصومه وابعاد منافسيه من الساحة السياسية التركية، وتغويل المؤسسات التركية بمن لهم صلة وعلاقة وثيقة بالرئيس أو بحزبه "حزب العدالة والتنمية"، لاسيما في المؤسسة العسكرية والأمنية والتعليم والقضاء والمؤسسات ذات الأهمية على الصعيد السياسي.
وان ما قالته المستشارة "تهاني الجبالي" نائب الرئيس السابق للمحكمة الدستورية العليا عن أحداث تركيا يؤشر على تلك التوجهات، وقد قالت "التهاني" بأن "الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ابن بار لكل القيم الإخوانية، التي لا تعترف بالجيوش ومؤسسات الدولة ويتعمد إهانتهم، وأنه يطبق خطة التنظيم الدولي للإخوان بعد أن فشل مرسي في تطبيقه في مصر" وقالت أيضاً "بأن جماعة الإخوان حاولت عزل 4500 قاضي في يوم واحد بأحد القوانين، وهو ما فعله أردوغان عقب فشل مسرحية الانقلاب "بحسب تعبيرها"، وتأكيدها على أن أردوغان يحاول أخونة الدولة التركية بعد عزل القضاة وتعيين بديلاً لهم من داخل الإخوان.
وحتى الخلاف السابق بين اردوغان ورئيس الوزراء السابق "احمد داود أوغلو" هو خلاف في التوجهات السياسية والفكرية بين الرجلين، بين سياسة الاخير (صفر مشاكل) وسياسة الرئيس اردوغان (اخونة تركيا). وهو خلاف بدأه اردوغان بنزعته الرئاسية، وأسلمة جارفة وسعي لتمكين تركيا من دور إقليمي في المنطقة يقوم على ريادتها ورهانها ومناصرتها للتيارات الإخوانية، وإعادة إنتاج "الخلافة". وهذا الخلاف ذكر به مستشار الرئيس التركي "عمر الفاروق قرقماز" بتذمره من الإخوان الفارين إلى تركيا والذي وصفهم بأنهم "يطلقون شعارات أكبر من تركيا".
وحتى التقارب الذي يجمع بين "يوسف القرضاوي" والرئيس التركي هو تقارب من أجل المشروع الإخواني، حتى أن الاخير الذي أهدى للقرضاوي نسخة من كتابه الجديد "رؤية للسلام العالمي"، كان يرى نفسه "الإخواني الأخير" في السلطة، وهو موقع يحمّله مسؤولية الذود عن حياض "الأمة" وصون شؤون "الجماعة"، لذلك يراهن على تسويق أحلامه التي تجد هوى في نفوس أتباعه في الداخل كما في الخارج. وهي افكار واصول إسلامية متشددة ضاربة بفكر حزب العدالة والتنمية، التي حاول "اردوغان" أن يظهرها ويطبقها بشكل تدريجي وعملي على ارض الواقع من خلال حلمه باستعادة الخلافة الإسلامية، ودعمه للمتطرفين في سوريا منذ اندلاع الثورة السورية، وكذلك دعمه للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة في العراق وسوريا وفلسطين ومصر، فضلاً عن دعمه لحكومة الإخوان في مصر قبل انقلاب الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي على حكومة محمد مرسي. وهذا ما يتعارض مع سمات الشعب التركي وموقع تركيا الجغرافي المحاذي لأوروبا، الأمر الذي جعلها أرض غير خصبة لتطبيق الفكر الاسلامي المتشدد، فضلاً عن تلونها بالطابع الغربي.
وعليه، ومن المتوقع أن حملة اردوغان السياسية ومشروعه السياسي لأخونة الدولة التركية عبر الوسائل الديمقراطية قد تعرضه لكثير من المشاكل مع دول الجوار ودول المنطقة، وتحرم تركيا من حلم الانضمام للاتحاد الأوروبي. وربما تقود ضده انقلاب عسكري كبير يشمل المؤسسة العسكرية برمتها لاسيما مع استمراره بحملة الاعتقالات الكبيرة التي يشنها ضد خصومه في كل مؤسسات الدولة التركية. وأن استهدافه لآلاف الموظفين واشعار موظفين آخرين بأنهم معرضون لإجراءات الملاحقة والعزل قد تطيح بأحلامه السياسية، لاسيما مع حالة التصعيد السياسي التي استخدمها الرئيس اردوغان اتجاه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذين حذروه من التمادي على حقوق الانسان والديمقراطية في دولة رئيسة من أعضاء حلف شمال الأطلسي.
فهل يعرف اردوغان حدود اللعبة السياسية أم سيستمر في التمادي بحلمه السياسي التاريخي وادخال الدولة التركية في مشاكل إقليمية ودولية معقدة؟ لاسيما بعد فشل مشروع الإخوان في مصر وغيرها من دول المنطقة.
اضف تعليق