عن نفسي لا املك حلما خاصا بي.. تجاوزت زمن الاحلام.. أعيش الان زمن الطموحات، خجولة أحيانا تكون، او جامحة.
هل هي في طور التحقق؟ لازالت تشتعل وتتوهج في داخلي.. لكن شيئا، ربما أشياء كثيرة تمنعها من التحقق.
ماذا عن زمن الاحلام؟ وانا اترك اللحظة خمسين عاما من عمري خلفي. ياه، نصف قرن، كم تبدل الكثير فيها، وكم تبدلت.. هل تبدلت حقيقة؟ مؤكد ذلك طالما أعيش على حافة الخديعة مثل ملايين الناس. يتوهمون انهم سعداء في حياتهم، وسعداء فيما حققوه.. لكنهم في الحقيقة راضين عنها الى حد ما وليسوا سعداء.
في عام مبكر اصبح رمادا الا من ذكرياته، حلمت مرة ان أكون سفيرا في دولة اوربية غير محددة وقتها، لم اكن اعرف ما يحتاجه مثل هذا المنصب الرفيع، بعد ذلك عرفت بفترة قصيرة.. من المستحيل ان أكون سفيرا في نظام يفرض عليك الطاعة المطلقة العمياء، وان تكون بعثيا حتى النخاع..
ربما مناسبة تلك المعرفة كانت صادمة، وهي كذلك فعلا في مثل ذلك العمر، رغم عدم علاقتها بحلمي ان أكون سفيرا..
وقتها كان والداي يشعران بالصدمة حين علما ان احد اقاربنا قد تم إعدامه من قبل السيد النائب.. وهو لقب لصدام حسين قبل ان يصبح رئيسا للعراق ويمتلكه كله..
كان هذا القريب مترجما للسيد النائب من الفرنسية او الإنكليزية، لا اعلم على وجه التحديد.. كلمة واحدة امام زوجته كانت كافية للإطاحة براسه وحياته واحلامه، وحلمي أيضا..
عند اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وطغيان الزي العسكري على الشوارع، حلمت ان اصبح طيارا.. فقط بسبب الزي او المغامرة التي يستشعرها الطيار وهو يحلق عاليا في سماء الوطن او سماء الأعداء.. كان مثل هذا الحلم ربما مستحيل التحقق، لسبب بسيط كنت اعرفه مسبقا ، وهو اني يجب ان امتلك بصرا حادا كالصقر.. لكني وقتها وحتى الان اعاني من قصر النظر الشديد.. كنت امل ان "الواسطة" التي لدي يمكن ان تشكل فرقا، فوالدي كان مهتما بتحقيق ذلك الحلم، حلمه هو اكثر مما هو حلمي.. مرة واحدة ذهبت الى الفحص الطبي، وشعرت لمرة واحدة ما يشعر به الضابط حين يمتلك السلطة، اجلس في السيارة العسكرية خلف يمين السائق، وكان الجنود في سيطرات المستشفى العسكري يؤدون لي التحية بصورة الية، فلا يجلس هناك الا من كان برتبة ضابط، حتى بزيي المدني.
في تلك المرة الوحيدة من الفحص وكان خاصا بالبصر، وضعني الضابط امام الحقيقة التي كنت قد تجاهلتها.. لا تصلح بسبب قصر النظر.. يمكن ان "انجحك" اذا تحملت الصفع والتعذيب بدلا مني وانا سأدخل الى السجن.. هكذا كلمني مازحا..
كلما تقدمت سنة في العمر، كنت اشعر ان الاحلام تتضاءل امامي. واني لست حرا في ما اريد ان أكون عليه.. لم انخدع باي شيء، فانت مجرد قطعة من ملايين القطع التي يقودها المستبد الى حتفها في هذا الوطن الذي حلمت ان تحلق في سمائه.. وغير مسموح لك ان تحلم وانت خارج اللعبة، او خارج ما يسمح لك المستبد ان تحلم به.. مجرد البقاء على قيد الحياة، انجاز بحد ذاته..
تذكرت العبيد وحريتهم الوحيدة في النظر الى السماء واحصاء النجوم فيها.. ربما كل إحصاء يقربهم الى حتفهم او الى موتهم، فلا فرق بين الاثنين فانت ميت بكل الأحوال..
كل ما حلمت به تلك السنوات لم يتحقق، ربما بعضا من الاحلام البسيطة.. مثل ان أكون شاعرا، وقد تخليت عن حلمي هذا حين أصبحت صديقاتي لا يشعرن بالدهشة مما أقوله، او انني قد توقفت ان أكون مدهشا امامهن، حين بدأت اعرف اكثر.. وربما حلمت ان اصبح كاتبا، وها انا امارس هذا الحلم باستمرار.. لكن شيئا ما يخبرني ان حلمي ناقص، مذبوح، مدحور، اليس كل شيء في هذا الوطن يصيبك بهذه المشاعر واكثر؟
لم يعد لدي حلم على المستوى الشخصي، بعد نصف قرن تركتها خلفي، رمادا وحرائق، افكر بأبنائي واحلامهم.
انهم يختلفون عني، مثلما زمنهم يختلف عن زمني، هل هم فعلا يختلفون عني؟
صحيح ان الاستبداد كما عرفته لاوجود له في حياتهم الحاضرة.. وصحيح ان الحرب مثلما عرفتها وكنت شاهدا عليها ليست قريبة منهم، وصحيح ان سنوات الحصار لا يعرفون عنها شيئا مثلما عرفته.. لكنهم تحت وطأة القتل المجاني كل يوم، وهم الذي تابعوا مجزرة الكرادة لحظة بلحظة، ويعانون من المجهول اشد مما عانيتـ، وربما ايامهم القادمة أسوأ من ايامي التي تركتها خلفي ونجوت.. لكن باي ثمن نجوت؟
اريد حلما.. مجرد حلم لأبنائي يبقي حياتهم متوازنة دون خدوش او جروح بسبب مثل هذا الواقع وخداعه لنا باننا بخير.. وان هناك افقا اخر ممتد امامنا، امامهم، لكننا لانعرف متى نصل اليه.. عدم المعرفة ربما يمنحهم قليلا من الصبر، من الامل، ان يواصلوا احلامهم، لكني اخشى عليهم ان يكتشفوا متأخرين مثلما اكتشفت مبكرا اننا نعيش خديعة كبرى لازالت مستمرة منذ نصف قرن مضى.. هل سيعيشون نصفا مثلها، او ضعفها، او أكثر لمن يأتي بعدهم من أبنائهم، ولا حلم من احلامهم قد تحقق الا بما سمحت به تلك الخديعة ان يتحقق؟ اخشى عليهم من ذلك، واخشى اكثر ان ابنائي وجيلهم ليس لديهم احلاما مثلما كان لدينا، وهم الذين يعرفون الان بزمن قصير ما كان يتطلب منا معرفته سنوات طويلة.
انه حلم .. مجرد حلم لأبنائي ارجو من مشعلي الحرائق التي تأكل الأخضر واليابس ان يسمحوا به، وان يكفوا عن اغتيال الرغبة بالحياة في عيون ابنائي.
اضف تعليق