كلما تألق الانسان في أعماله الخلاقة، كلما ازداد تأثيراً وفائدة لمحيطه الاجتماعي، كون هذا النوع من العمل يمثل خطوة متطورة على الحالة الديناميكية التي يتحلّى بها ويتميز بها عن سائر المخلوقات، لانه مفطور على الحركة والعمل والانتاج، ويرغب دائماً أن يرى الآخرون نتاجه وما صنعت يداه، وتأتي الخلاقية هنا؛ خطوة متميزة على طريق التفوق على الآخرين، وهذا ما نلاحظه في النبات والحيوان ايضاً، فالنحلة التي تصنع العسل، ليست كأي حشرة طائرة بين آلاف الانواع من الحشرات، كما أن الاشجار المثمرة بأنواع الفاكهة المليئة بالفيتامينات والمعادن اللازمة لبناء جسم الانسان.
بيد أن الفارق هنا بين الانسان وسواه، وجود الدوافع لهذه الاخلاقية، سواءً في الأدب والفن والتصنيع وحتى الامور المعنوية مثل البطولة في سوح المواجهة والقيادة وغيرها، بينما في حالة الحيوان والنبات فان الفطرة والغريزة المودعة إلهياً فيهما، هي الدافع الاول والاخير لأن تكون خلاقة بالشكل الرائع الذي نراه، فاذا كان العمل الخلاق من النحل والاشجار المثمرة والأزهار، يتكرر في شكله ونوعه، فان الاعمال الخلاقة للانسان تتنوع وتتغير في أبعادها حسب ظروف الزمان والمكان، وهنا تكون للدوافع مدخلية مؤثرة في هذا النحو من الاعمال المتميزة، تسقط عليها هويتها وجذورها، فاذا كانت انسانية وبناءة تعتمد القيم والمبادئ، كانت النتائج قرينتها، والعكس بالعكس تماماً، والسؤال هنا عن نشوء هذه الدوافع؟.
العلماء مختلفون
تضاربت آراء علماء النفس في مصدر الدوافع عند الانسان، فمن قال بالارادة وحرية الاختيار، ومن قال بـ "الحتمية النفسية اللاواعية"، التي تلامس نظرية "الحتمية التاريخية"، ومن قال بـ "القصدية" التي ترجع الغاية الى "الأنا"، أو ترجع دوافع الانسان الى نفسه، فيكون عائداً الى ذاته وحسب.
ومن اكثر النظريات إثارة ما طرحه فرويد، احد اشهر علماء النفس، عندما تحدث عن اللاوعي وتأثيرها على سلوك الانسان وعواطفه وطريقة حياته، وقال بالحرف الواحد: "الانسان ليس سيد أفعاله"، بمعنى أن افعاله تجد تفسيرها في القوى اللاواعية الدافعة لها.
أما كيف تتكون هذه القوة، فان فرويد يذهب الى وجود حالة الكبت النفسي لدى الانسان، الناشئ من صراع الانفعالات والرغبات والعلاقات المتضاربة، كل ذلك يشكل قوة فاعلة في لا وعي الانسان، واذا ما اراد تحقيق شيء، ما عليه إلا ان يمر بمراحل الألم بكبت المشاعر، أو القلق من ظهورها الى الواقع الخارجي، والنتيجة التي يصل اليها مصطفى حجازي في "إطلاق طاقات الحياة"، فان هذه القوة "الدافعة" "تتجلى في الوعي والسلوك والعلاقات على شكل تسويات وتحويرات وتمويهات، من ابرزها الكتابة والمجاز التي تمثل قوام لغة اللاوعي"! كما يعتقد أن المكبوتات تتجلى ايضاً في "الانتاج الأدبي والفني وفي الهفوات والزلات...".
في مقابل نظرية "الدوافع اللاواعية"، يقف انصار النظرية القصدية، حيث الانسان هو صانع خياراته وقراراته، ويطلق بعضهم عليها "الشخصية ذاتية الغاية"، بمعنى أن هذه النظرية تناقض سابقتها، حيث تعتقد بالتحكم الذاتي للدوافع الانسانية، وليس بالتحكم الخارجي "الحتمي" والمفروض عليه، ولعل هذا – حسب حجازي- جعل معظم علماء النفس الايجابي يتبنوا هذه الرؤية، ومن رواد هذه النظرية؛ الفرد أدلر الذي يقول: "اذا فهمنا السلوك القاصد (المدفوع من خلال الاختيار الذاتي) نستطيع ان نغير اهدافه وتصرفاته للوصول اليها"، وعليه فان الانسان يبتكر عالمه ويصنعه بنفسه دائماً.
الخلاقية الواعية
ربما يعتقد البعض في الكفاية بالتحكم الذاتي في نصع الدوافع من خلال القصدية الذاتية، فان هذا المنحى قد يتحدد في إطار الزمان والمكان، ولا يأخذ ابعاده الحضارية والبناءة التي تحتاجها مساحات واسعة من الجماهير وربما الامة جمعاء، فهل تأتي الخلاقية والابداع تلبية لمقاصد ذاتية ورغبة نفسية كامنة؟ أم اننا نراها حيوية وملازمة للاجيال والزمان عندما تكون في خدمة الانسانية جمعاء، كما هي المكتشفات العلمية والانجازات الحضارية التي لا يمكن ان تقيد بإطار ذاتي خاص، او ان تكون نتاج مشاعر مكبوتة وقوة اللاوعي، كما مرّ آنفاً.
وهذا لا يكون إلا بوجود رؤية وبصيرة نافذة الى ما وراء الطبيعة، واستشعار العوالم الأخرى التي يكمن فيها الافضل والأسمى من هذه الحياة، ومنه نلاحظ التضحيات بالمال والنفس وكل شيء للوصول الى أفضل النتائج، وإذن؛ تتجلى الدوافع الايجابية في الوعي الكامل بالحاضر والمستقبل، وهذا ما يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في "الصياغة الجديدة" عندما يؤكد حقيقة أن "الانسان يمتلك خلاقية واعية، بمعنى انه يوجد شيء او يصنع حدثاً بملء ارادته، سواء أكان الامر في الطريق الخطأ أو الصواب"، هذا الوعي هو الذي يفتح أمام الانسان الخلاق آفاقاً واسعة من التفكير وتجعله "يمتلك نفساً خلاقة للحياة والعطاء والبحث عن الافضل، فاذا يفكر بالانتقال الى مكان أحسن من هذه الحياة، بمعنى أنه مؤمن بوجود حياة اخرى بعد الموت، دائمة لا تزول...".
وعليه فان هذا الوعي يجعل صاحبه مسؤولاً عن جميع أعماله وما يصدر منه من انفعالات وعواطف ومواقف، وفي نفس الوقت يكون مسؤولاً عن الآخرين، كون ما يقدمه من عمل جديد الى الواقع الاجتماعي او الاقتصادي او حتى السياسي، يمثل استجابة لحاجة موجودة في الساحة وليست مجرد ترف علمي او فكري القصد منه إثبات الوجود وبعض المصالح الخاصة.
ولمن يلاحظ أحوال الشعوب المأزومة في المنطقة، لاسيما الشعب العراقي، نجد أنه يتطلع الى الاعمال الخلاقة والمبادرات الشجاعة والمميزة في ميادين عدّة تغير من واقعه الى حيث الحياة الآمنة والاستقرار والعيش الكريم، فهو جرّب "الخلاقية السياسية" ممن أناس يدّعون اتقان السياسة وهم أجهل ما يكونوا عن قواعد واستحقاقات هذا العلم، فاتسمت أعمالهم بالفوضى والغموض، وهو ما يزال ينتظر الجديد.
اضف تعليق