يتساءل الكثيرون عن الأسباب وراء قدرة الأردن الفقير والضعيف في موارده على الصمود أمام أمواج متلاحقة من القلاقل والحروب والقتل والدمار الذي يحيط به والذي طـَحَنَ دولاً أكبر وأهم وأغنى منه، وعن الأسباب الحقيقية وراء قدرته على الحفاظ على أمنه وإستقراره مع أن تلك القدرة قد ابتدأت مؤخراً في التناقص، في حين لا يوجد أدلة حتى الآن فيما إذا كانت الأعمال الإرهابية والعدائية التي أصابت الأردن مؤخراً هي جزء من مخطط عام أم هي عمليات فردية غير مترابطة ولا أثر إستراتيجي لها.
يحلو لمعظم المسؤولين الأردنيين أن يعزوا الأمن والإستقرار الذي يتمتع به الأردن إلى النظام الحاكم وإلى قدراته الفذةِ على إدارة شؤون الدولة بما يحفظ ويكرس ذلك الأمن والإستقرار وكأنه صناعة أردنية بحتة. وهذا الموقف يعكس قـَدَراً عالياً من المبالغة والتملق للحاكم ناهيك عن إبتعاده عن الحقيقة. فالمـوقع الجغرافي للأردن ودوره الوظيفي هما اللذان حَدﱠدا أصلاً وضعه السياسي ودوره الإقليمي وما زالا يحـددان قدرته على الإستمرار بأمن وإستقـرار. فـوضع الأردن هو في الحقيقة محصلة لدوره المرسوم له من قـِبَلْ قوى إقـليمية وخارجية، ودور قواته الأمنية المحلية هو في الواقع منسجم مع تلك المخططات الخارجية ويهدف إلى تسهيل أمورها ولا يملك القدرة على إعتراضها ومنع حدوثها. والحديث عن المعجزات التي تقوم بها تلك القوات قد لا يكون في مصلحة أحد كونه يبعث عن الثقة المُفـْرِطـَة بشكل يفوق الواقع ويوقع الشعب في وَهْم إمتلاك القوة الرادعة والمانعة.
إن إفتقار الأردن إلى نظام ديموقراطي حقيقي فاعل حَوﱠلَ مسؤوليه وحكوماته إلى مجموعة من هواة السياسة اللذين يـُتـْقـِنون فن التزلف وإسترضاء المسؤول الأعلى مرتبة، عوضاً عن العمل على صياغة برامج عمل سياسي وحزبي تشكل الأساس لإختيار المسؤول وتشكيل الحكومات ضمن عملية ديموقراطية سلمية. إن هذا الواقع السيء قد فاقم من حالة العجز السياسي والمؤسسي وجعل من الإعتماد على النظام أو الإختباء خلفه لتفادي المسؤولية في حال الفشل نهجاً للعمل السياسي. وهذا الإستسلام الكامل يعتبر أداة لإسترضاء الحاكم ووسيلة للوصول إلى المنصب المتـقدم أو إخافة الناس من عواقب التغـيير ومن المجهول. وفي كل الأحوال فإن هذا الوضع يهدف إلى تقديس النظام وجعله ركيزة الإنجاز حُكماً دون تحميله مسؤولية أي فشل بالرغم من أنه يحتكر جميع السلطات.
إن الأردن الذي تقلصت مؤسساته الدستورية الأساسية ونظام الفصل بين السلطات فيه إلى حدودها الدنيا بعد أن تم حشر كل السلطات في شخص الحاكم قد أصبح أقرب في واقعه من أي وقت مضى إلى الدولة الفاشلة حيث أن شعبه قد قايض كل شيء مقابل شعار الأمن والإستقرار بإعتباره إنجازاً داخلياً من صنع النظام، في الوقت الذي تشير فيه حقائق السياسة والعلاقات الإقليمية والدولية إلى أن ذلك من صنع الآخرين وهو قادم بقرار من خارج الأردن وقد ينتهي بقرار مماثل. وهذا يعني أن الشعب الأردني قد قايض سيادته وضماناته الدستورية وإستقلال مؤسساته مقابل وهمٍ قد لا يعني شيئاً خصوصاً وأن القرار النهائي يأتي من خارج الأردن في كل الأحوال.
لم يسعى الحكم في الأردن إلى تسخير سلطاته المطلقة بشكل يؤدي إلى تحسين نوعية الحياة وحل المشاكل الحياتية للشعب عوضاً عن الإسفاف في فرض الضرائب وزيادة الأسعار وإستثمار سطوة الدولة في إستباحة قوت المواطن ودخله ومن ثم كرامته والإمتناع عن توجيه تلك السطوة لمحاربة الفساد وإسترجاع المال العام المنهوب بعد أن أصبحت حماية الفساد الكبير سياسة غير معلنة للحكم الأردني.
يسير الأردن الآن في إتجاه مأزق هو في الأساس من صنع يديه. فالأردن غير القادر منفرداً على تغيير مجرى الأحداث في الدول المحيطة به أصبح يعتمد إعتماداً كلياً عن الدعم الخارجي لتعزيز قدرته على التحكم في مجرى بعض الأحداث أو التأثير عليها أو حمايته من عواقب التدخل فيها.
الواقع أن معظم ما يتعرض له الأردن مؤخراً من أحداث إنما هو نتيجة لتداخله غير الضروري في الأزمة السورية والصراع في العراق وفي تحالفه مع مخططات خارجية ضد الإقليم العربي وخصوصاً دوره في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي سمح بقصف دول عربية وقتل مواطنيها. وهو بذلك يحصد نتيجة أفعاله وإستجابته للرغبات الأمريكية في الوقت الذي أعطت فيه أمريكا مؤشرات على أنها لن تزج نفسها في صراع مع قوى أخرى مثل روسيا دفاعاً عن أحد اللهم إلا إذا تعرضت مصالح أمريكا نفسها للخطر.
إن إبتزاز الأردن من خلال تسخيره للقيام بأدوار في غير مصلحته وخدمة للآخرين مقابل وعود بالمحافظة على أمنه وإستقراره هو أمر في غاية الخطورة نظراً لأن القوى الدولية لا تحترم في النهاية إلا مصالحها وعندما تتعارض تلك المصالح مع المصالح الأردنية مثلاً فإن الأردن يصبح في مهب الريح.
اللعب المشترك مع الكبار لن يجعل الأردن كبيراً بل سوف يكرس في الواقع خضوعه ويجعل منه أداة في يد الآخرين ويزيد من ضعفه من خلال زيادة إعتماده على القوى الكبرى للدفاع عنه وعن السياسات التي يتبناها بالإشتراك مع أو بالنيابة عن تلك القوى وهي سياسات لا تحظى في الغالب بأي تأييد في أوساط الشعب الأردني.
إن هذا المسار غير المبرر وغير الضروري في السياسة الخارجية الأردنية والذي يستند إلى ما يتشدق به بعض المسؤولين من أنه يهدف إلى حماية أمن الأردن وإستقراره قد أثبت العكس وأنه في الواقع المدخل المضمون لزج الأردن في أتون الصراعات الإقليمية وحروب الآخرين وتقديمه في النهاية ككبش فداء لأمن وإستقرار إسرائيل. وموافقة الأردن على لعب هذا الدور لن يفيد الشعب الأردني بشيء حتى وإن كان يعني في الظاهر أنه وسيلة الأردن الوحيدة للأمن والإستقرار.
التطورات الأخيرة والأعمال العدائية داخل الأردن تشير إلى إقترابه من حقل الألغام الداعشي أو من تبعات التورط في الأزمة السورية والحرب على الإرهاب والأزمات الداخلية التي أثارتها دول خارجية مثل الولايات المتحدة وعكست سلباً على مصداقية بعض المؤسسات الأردنية الهامة ومنها الأمنية التي تم إتهامها بالمتاجرة بالأسلحة. هذا بالإضافة إلى ظهور مؤشرات على تغييرات سياسية إقليمية قادمة مثل التسارع الخفي تجاه إيجاد حلول للقضية الفلسطينية، يتم العمل على إستنباطها وتوفير غطاء عربي لها من خلال التدخل الأردني والمصري إستناداً إلى علاقات السلام التي تربطهما مع إسرائيل، وكذلك التقارب السعودي–الإسرائيلي الذي قد يعصف بالتحالفات الإقليمية التقليدية لصالح تحالف إسرائيلي–سعودي جديد أخذ ينتقل بسرعة من خانة السرية إلى العلنية، وعودة تركيا إلى تحالفاتها التقليدية الإقليمية خصوصاً مع إسرائيل، وتطور التفاهم الأمريكي – الأوروبي مع إيران. كل هذا يعطي مؤشرات على إقتراب الأردن من حافة البركان في نفس الوقت التي يشهد فيها الإقليم تغييرات إستراتيجية وأنماط جديدة من التحالفات الإقليمية وربما إختفاء دول محورية وظهور دويلات تابعة تسير في فلك الآخرين. وهذا الوضع يعزز بل ويضاعف المخاطر التي قد يتعرض لها الأردن سواء من العمليات الإرهابية أو من المخاطر الناتجة عن التحالفات الجديدة والتي إما ستعزز من أمن الأردن أو تدفعه إلى العراء لمواجهة أخطار جديدة ناتجة عن التغيير في التحالفات الإقليمية.
وهكذا، فبالنسبة للعرب إنتهت أيام البساطة والسعادة الزائفة، وأيام العز والفخار الزائفة أيضاً. أما بالنسبة للأردنيين فإن السياسة المعتدلة التي إمتاز بها الأردن منذ تأسيسه والتي راعت كونه دولة صغيرة وفقيرة ذات أثر محدود في أحداث المنطقة اللهم إلا ما إرتبط منها بالدور الفلسطيني قد إنتهت وتم إستبدالها بشعور زائف بالعظمة وبالتالي التصرف كدولة رئيسية في الإقليم. وعوضاً عن أن يـُمَثــِّل الحاكم واقع الدولة أصبحت الدولة تسعى جاهدة إلى تجسيد طموحات وأحلام الحاكم بغض النظر عن إمكاناتها وقدراتها.
الشعور بالعظمة مرض لا يصيب الأفراد فقط بل قد يصيب الشعوب والدول والتي قد تتحول في مسعاها ذلك إلى مجتمعات ذات نزعه إقصائية أو فاشية. وهذا ما يجعل الدول التي يصيبها جنون العظمة أكثر استعداداً للتدخل في مشاكل الآخرين وفي المناطق المتفجرة بغض النظر عن إمكاناتها. فالرغبة في أن يكون المرء شيئاً هاماً لا يعني توفر القدرة على ذلك أو على تحمل تبعات تلك السياسة لأن النوايا لا تكفي بل يجب أن يرافقها القدرة والإمكانات على ترجمة القول إلى فعل.
اضف تعليق