حين التعمق في مفردات ومفاهيم المنظومة الفكرية الإسلامية، نكتشف أن هذه المنظومة تعمل على تحرير العقل المسلم من كل المعيقات المادية والمعنوية التي تحول دون استخدام العقل أو التفكير بدون قيود ومسبقات ذهنية أو تاريخية تعمل على تقييد العقل أو منعه من الانطلاق.
بل إن ذات المفاهيم الفكرية الإسلامية، تشكل رافعة ضد كل القيود والكوابح التي تمنع تحرير العقل المسلم.
وفي تقديرنا أن تحرير العقل المسلم من كل القيود والكوابح، هو من المفاهيم الأساسية لنهضة الأمة. لأن الخطوة الأولى في مشروع النهضة الحقيقية والفعلية في أي مجتمع، هو تحرير عقولهم من كل المعيقات والمبررات التي تحول دون استخدام العقل بشكل فعال، وانطلاقه في مشروع النهضة والتحرر من كل ما يعيق فعل النهضة وممارستها.
وحين التأمل في آيات الذكر الحكيم، نجد هناك العديد من الآيات القرآنية التي تؤسس لمرحلة الانطلاق العقلي والثقافي بعيداً عن قيود الآباء وكوابح المسبقات الذهنية والعملية السابقة. فالتجارب والتاريخ بكل تطوراته هو لأخذ العبرة والاستفادة من دروسه وكيفية التحرر من كل المعيقات. فلا انحباس في التاريخ وقضاياه، ولا هروب من الراهن وتحولاته، بل ممارسة شهودية مستندة إلى عقل وفكر متحرر من كل القيود والمعيقات.
الموقف من التاريخ وأحداثه:
حينما يذكر النص القرآني الكثير من أحداث التاريخ وتطوراته، لا يستهدف النص القرآني الانحباس في أحداث التاريخ وقضاياه المختلفة، وإنما الاستفادة من دروسه وعبره، حتى لا يكرر الإنسان الفرد والجماعة أخطاء من سبقه، أو الخيارات الخاسرة التي التزم بها السابقون.
فالتاريخ مدرسة متكاملة للاستفادة منه على مختلف المستويات، وليس بديلا عن الراهن بكل تطوراته وتحولاته.
فحينما نعود إلى التاريخ، نعود إليه، لا بمعنى الهروب من الراهن، وإنما لاستنطاقه، وأخذ العبر والدروس من أحداثه المختلفة.
يقول تبارك وتعالى (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [الروم،9]، وقال تعالى (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) [الروم، 33].
فـ " يعطي القرآن الحكيم المؤمنين البصيرة الإلهية في التاريخ لينظروا من خلالها إلى الغابرين ويعتبروا بمصيرهم. ذلك بأن الإنسان تشده حوادث التاريخ بقدر ما تستثيره ظواهر الحياة الراهنة. وهو مفطور على النظر إلى الماضي. إذاً فلينظر إليه من خلال بصيرة إلهية ليزداد إيماناً بربه وتسليماً لسنته وشرائعه كلما نظر في أحوال الغابرين".
فكل أحداث التاريخ تعلمنا، أن الخضوع لمتواليات بعض اللحظات، تفضي إلى نتائج كارثية. فحينما يخضع المجتمع إلى سيطرة المترفين، فإن مؤدى هذه السيطرة، هو اضمحلال الطبقة الوسطى وتلاشيها التدريجي، وهذا بدوره يفضي إلى ضعف التماسك الاجتماعي، الذي يؤدي بدوره إنهاء التجربة الاجتماعية الخاضعة لسيطرة وسياسة المترفين.
يقول تعالى (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) [القصص، 76]. وتكون نتيجة هذه السيطرة هي: (فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين) [القصص، 81].
فالضعف البشري بكل دوائره ومستوياته، لا يمكن تجاوزه إلا بتنمية روح الإيمان، فالإيمان بكل متوالياته النفسية والسلوكية، هو القادر وحده على مواجهة الضعف البشري المركوز في نفس وعقل الإنسان..
فالروح الإيمانية هي التي تجعل الإنسان يقتحم الصعوبات ويواجه المعضلات. ولولا هذه الروح لبقي الإنسان خاضعاً لمقتضيات الخوف من المجهول ومن المستقبل القريب والبعيد.
وحينما يزيل الإنسان حجب الأهواء والشهوات والظنون، تتجلى قدرة الإنسان في عمران الأرض والحياة.
فالتاريخ بالنسبة إلى الإنسان المسلم الذي يمتلك الوعي والبصيرة، ليس نهاية الحياة، وليس السقف الذي يجب أن تقف عنده كل الإرادات والإبداعات الإنسانية. بل هي تجربة إنسانية فيها كل الصور والاحتمالات، ومهمتنا أخذ العبر والدروس من هذه التجارب الإنسانية سواء كنا أفراداً أو مجتمعات.
وحينما يعلن الإنسان أنه ينتمي إلى مدرسة الإسلام، وأنه يمتلك كل الاستعداد للالتزام بكل مقتضيات هذا الانتماء والولاء، فهو في حقيقة الأمر يطرد من نفسه وعقله نزعة الوصولية ومفارقة الباطن مع الظاهر. لذلك نتمكن من القول: أنه لا نهضة حقيقية في أي واقع إنساني، إلا بصفوة تأخذ على عاتقها الالتزام بكل قيم النهضة وثوابتها، وترفض مهما كانت الضغوطات أو التهديدات أو الإغراءات بيع التزامها أو التنصل منه.
إن صدق الانتماء والولاء، ووجود كتلة بشرية ملتزمة بذلك قلباً وقالباً، ظاهراً وباطناً، هو من أهم الحقائق والمفاهيم الأساسية لإحداث نهضة حقيقية في واقعنا الاجتماعي والإنساني.
التحرر من الأهواء والشهوات وعدم الخضوع إلى متطلباتها.. لعلنا لا نضيف شيئاً إلى علم القارئ حين القول: إن التحرر المعنوي من الحاجات والشهوات، هو سبيل نيل الحرية في دوائر الحياة المختلفة. ومن يعيش عبداً لشهواته وأهوائه وحاجاته البيولوجية أو الاجتماعية، لن يتمكن من نيل الحرية في السياسة والمجتمع. لأنه ببساطة شديدة من يخضع لأهوائه وشهواته وحاجاته، لن يتمكن التحرر من كل هذه القيود، وبالتالي فإن هذا الإنسان سيعبر في كل مقولاته عن خضوعه التام لكل تلك الحاجات والشهوات.
من هنا فإن تحرير العقل المسلم من كل القيود والمعيقات، يقتضي تحرر العقل المسلم من أهوائه وشهواته وحاجاته التي تضغط عليه جوهرياً وتجعله على مستوى المواقف والممارسة خاضعاً لكل متواليات عدم التحرر المعنوي.
وعليه فإن تحرير العقل المسلم المعنوي، الذي يكبح الإنسان ويقيده بفعل علاقته غير السليمة مع غرائزه وشهواته وحاجاته.
كذلك يقتضي التحرر من كل القيود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحول الإنسان إلى عبد أعمى لكل هذه المفردات.
وإن الطريق للتحرر من كل هذه القيود، هو التحرر المعنوي، وعدم الخضوع القسري لكل الأهواء والشهوات التي تحول الإنسان إلى كائن شهواني، غرائزي.
لذلك فإن من يتحرر من شهواته وأهوائه، قادر على التحرر من الظلم الاجتماعي والاستبداد وأشكال الحيف الاقتصادي. ومن لا يستطيع التحرر من شهواته وحاجاته فإنه تبعاً لذلك سيكون غير قادر على التحرر من كل القيود الخارجية. من هنا ينبغي أن نربي أنفسنا على المستويين الروحي والعقلي، أن لا تكون هناك حاجة تضغط علينا سلباً لتلبيتها.
فلا حاجة تأسرنا، ولا شهوة تخضعنا، ولا قوى غاشمة مهما كانت غطرستها قادرة على إخضاعنا والسير الأعمى خلفها.. ولو تأملنا في آيات الذكر الحكيم نجدها باستمرار توجهنا إلى ضرورة التحرر من الأهواء والشهوات.
اضف تعليق