منذ ما يقارب السنة وبالتحديد منذ صيف العام الماضي، اخذ مشروع الإصلاح السياسي العراقي يعتلي المنابر الإعلامية والسياسية، وأصبح الشغل الشاغل لكل العراقيين. وحينها خضع السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى رغبات الشارع العراقي وطرح مشروعه الإصلاحي، إلا أن القوى السياسية وثقافة المحاصصة الحزبية والطائفية وحالة الصراع السياسي والتوافقات السياسية حّجمت مشروع الإصلاح، وحاولت بعض القوى السياسية الالتفاف على مشروع الإصلاح بطرق ووسائل مختلفة، سواء بتبنيها مشاريع إصلاحية مختلفة أو بدعمها للمشروع الإصلاحي بشكل ظاهري فقط ورفضه من الخلف.
وهكذا استمر الحال لحين دخول بعض اعضاء مجلس النواب العراقي وتبنيهم مشروع الإصلاح من خلال الاعتصام داخل بناية مجلس النواب وتشكيلهم كتلة نيابية سميت بـ (جبهة الإصلاح) الذي اخذت على عاتقها مشروع إقالة الرئاسات الثلاث كخطوة أولى لبرنامج الإصلاح السياسي، بدءً من اقالة رئيس مجلس النواب العراقي (سليم الجبوري)، ومن ثم إقالة الرئاسات المتبقة (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء).
وقد تم ذلك بالفعل من خلال الاعتصام داخل مجلس النواب العراقي، وتمكنهم من عقد جلسة يوم 14/نيسان الماضي، التي تمت فيها إقالة رئيس مجلس النواب ونائبيه من منصبهم، الأمر الذي احدث ضجة على المستويين الداخلي والإقليمي، فضلاً عن الموقف الأمريكي، إذ كانت هناك ضغوط وتدخلات إقليمية ودولية داعمة لبقاء سليم الجبوري في منصبه والحفاظ على الوضع القائم.
استمرت بعد ذلك تداعيات هذه الجلسة حتى عُقدت الجلسة الثانية يوم 26 نيسان، مما اقتضى الأمر تقديم طعن بجلسة يوم 14 نيسان في المحكمة الاتحادية من قبل رئاسة البرلمان، كذلك قُدم طعن آخر بجلسة يوم 26/نيسان (الجلسة التي تم فيها إقالة الوزراء الخمسة والتصويت على وزراء جدد). لتستمر بعد ذلك حالة التجاذبات والانقسامات السياسية طيلة هذه المدة، الأمر الذي عطل عمل السلطة التشريعية بشكل تام حتى انتهاء الفصل التشريعي، ولتستمر كذلك المحكمة الاتحادية بتأجيل قرار البت في صحة ودستورية الجلستين (14 و26 نيسان).
وبما أن الوضع العام في البلد يتأثر بحالة عدم الاستقرار السياسي بما فيه القضاء، توقع كثيرون بأن المحكمة الاتحادية لن تبت بدستورية الجلستين لحين حصول حالة توافق سياسي بين القوى السياسية؛ وذلك لتجنب الاتهامات المتبادلة أو اتهام القضاء بالانحياز لجهة دون أخرى وعدم الموضوعية، وأيضاً لإبعاد البلد عن الدخول في متاهات تؤجج أو تزيد من حالة عدم الاستقرار السياسي، لاسيما في ظل الحرب الدائرة ضد تنظيم "داعش".
وبسبب عدم حصول حالة التوافق السياسي بين الأطراف السياسية، قضت المحكمة الاتحادية العليا بعد عدة تأجيلات بعدم دستورية جلستين مجلس النواب التي جرت خلالهما إقالة رئيس المجلس والتصويت على وزراء جدد. وهو القرار الذي عّده كثيرون بأنه قرار توافقي، تجنبت من خلاله المحكمة ترجيح كفة على أخرى، ولذلك اخذت المحكمة تسوّف الأمور وتعمل على كسب الوقت بانتظار التسوية السياسية للموضوع، على الرغم من أن المحكمة لديها الدلائل التي تمكنها من اصدار قرار في الدعوتين المقدمتين أمامها، ولهذا يعد قرار المحكمة الاتحادية إرضائي أكثر مما هو قرار قانوني "موضوعي".
وبتت المحكمة بعدم دستورية جلسة يوم 26، على الرغم من تحقيقها النصاب القانوني من حيث عدد النواب الحاضرين، كذلك رأت المحكمة أن الجلسة التي عقدت في يوم 14 نيسان من الشهر ذاته كانت هي الأخرى غير دستورية بسبب عدم تحقيقها النصاب القانوني، إذ حضرها 131 نائبا فقط. وهنا يكمن التساؤل، لماذا لم تبت بعدم دستورية احدى الجلستين وبتت بعدم دستورية الاثنين؟ على الرغم من أن الثانية حققت النصاب المطلوب!
قرار المحكمة الاتحادية بعدم دستورية الجلستين مَثل ضربة قوية لمشروع الإصلاح السياسي ومشروع التغيير الوزاري، لاسيما بعد المطالبات الشعبية الداعية الى تغيير الوزراء الحاليين بوزراء تكنوقراط، والذي على أثره (قرار المحكمة) علق رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" بأنه يستبعد في الفترة الحالية الاصرار على موضوع التعديل الوزاري وأعطى الأولوية لتحرير الموصل والحرب ضد تنظيم "داعش" لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي وتحسين الطاقة الكهربائية على حد قوله.
وربما هذا القرار لم يكن حائلاً أمام المطالبة بإقالة الرئاسات الثلاث الذي تلوّح به كتل سياسية حتى من خارج جبهة الاصلاح، لاسيما بعد تلويح زعيم التيار الصدري بانضمامه للجبهة المطالبة بإقالة الرئاسات الثلاث في حال فشل مشروع الإصلاح السياسي، وقد اتهم السيد الصدر دولة القانون ومَن أسماهم "بإصحاب الولاية الثالثة" وراء قرار المحكمة الاتحادية بإلغاء جلستي البرلمان (14 و26 نيسان). وفتحت بعض الكتل السياسية النار على رئيس الوزراء حيدر العبادي مجدداً، متهمة اياه بضعف دوره في التعامل مع القضايا المصيرية التي يمر بها البلد، محذرة من سحب الثقة عنه، وهو ما قد يولد صراعاً في قادم الأيام بين أطراف التحالف الوطني.
وربما يكون ارجاع الوزراء وإلغاء تغيير الكابينة الوزارية التي اقرت في جلسة 26 من نيسان الماضي ، بعد صدور قرار المحكمة الاتحادية سيعيد للساحة المطالبات بتغيير العبادي، لاسيما وأن قرار المحكمة الاتحادية بخصوص إلغاء جلستي نيسان عّدته جبهة الإصلاح بمثابة تهيئة الاجواء لسحب الثقة من رئيس الوزراء وبطلان جلسة 26 نيسان ضربة للعبادي وانتصار لمناوئيه؛ لأنهم سيبدؤون مرحلة جديدة بسحب الثقة منه بعد عطلة العيد. وسيعيد أيضاً موجة الاحتجاجات والتظاهرات بشكل أكثر حدة، لاسيما بعد فترة الهدوء النسبي واستجابة المتظاهرين لدعوة رئيس الوزراء بالتفرغ لمرحلة تحرير الفلوجة، وفشل مشروع الإصلاح السياسي، وتجاهل المطالب الشعبية الداعية للإصلاح.
ولهذا ربما تكون موجه الاحتجاجات والتظاهرات بعد عطلة العيد كبيرة جداً وربما يتكرر سيناريو اقتحام المنطقة الخضراء ولربما تكون هناك تداعيات كبيرة على قرار المحكمة الاتحادية وفشل مشروع الإصلاح من قبل المتظاهرين، لاسيما بعد أن توّعد زعيم التيار الصدري الحكومة وإصراره على استمرار التظاهرات، فضلاً عن إصرار جبهة الإصلاح على مشروعها السياسي الداعي إلى إقالة الرئاسات الثلاث، وهو ما صرح به النائب عن جبة الإصلاح "احمد صلال" قائلاً "بإن جبهة الاصلاح ماضية في مشروعها الإصلاحي، المطالب بإقالة الرئاسات الثلاث ، ومن اولوياتها هيئة رئاسة البرلمان". ولهذا ربما تكون هناك تحركات على المستويين السياسي والشعبي تكون فيها كل السيناريوهات مطروحة سواء فيما يتعلق بإقالة الرئاسات الثلاث أو فيما يتعلق بموجة الاحتجاجات والتظاهر ضد الفشل السياسي لمشروع الإصلاح.
ولهذا لابد للقوى السياسية التي تقف بوجه الإصلاح أو التي تريد إصلاح على طريقتها المعتادة أن تتيقن وتدرك بأن الوضع الحالي لا يمكن أن يستمر، وأن المتظاهرين والمحتجين على سوء الأوضاع والمطالبين بالإصلاح السياسي لا يمكنهم الاستمرار بطريقة الاحتجاج السلمية؛ لاسيما بعد تصاعد السخط الشعبي جراء انعدام الخدمات الصحية والخدمية ولاسيما الخدمات المتعلقة بتوفير الطاقة الكهربائية التي كانت نقطة الانطلاق في الاحتجاجات الشعبية في صيف العام الماضي، وأن سياسة التوافقات والمحاصصة لم تعد مجدية ولا يمكن لها أن تنهض بالدولة العراقية، لاسيما بعد الفشل السياسي طيلة الفترة الماضية. وعليها "القوى السياسية" أن تضع برنامج إصلاحي حقيقي بعيداً عن المزايدات السياسية والمصالح الحزبية.
اضف تعليق