q

في ظل الاحتجاجات والتظاهرات المستمرة التي تشهدها العاصمة بغداد وباقي محافظات الوسط والجنوب، بشكل أسبوعي، ومع تزايد السخط الشعبي جراء السياسات الحكومية والفشل السياسي في إجراء الإصلاحات الحكومية والتغييرات الوزارية لمنظومة الدولة العراقية (الإصلاح الفعلي)، وتصاعد وتيرة التظاهرات التي بدأت تتصاعد حدتها نتيجة التسويف والمماطلة من قبل بعض القوى السياسية؛ لإفشال مشروع الإصلاح، وابقاء الوضع على ماهو عليه، بدأت الحكومة العراقية وبعض القوى السياسية تصّعد من لهجتها ومواقفها اتجاه التظاهرات والمتظاهرين؛ نتيجة الخروقات المتكررة واقتحام المنطقة الخضراء، وهذا التصعيد ربما يحمل خطورة كبيرة بين طياته، ويهدد أمن الدولة العراقية، ويشق وحدة الصف العراقي، إذا ما استمر، لاسيما بين المتظاهرين والقوات الأمنية.

ويبدو بأن القوى السياسية ما زالت تراهن على الوقت لتسويف التظاهرات، إلا أن إصرار المتظاهرين على التظاهر وتحقيق الإصلاح الحكومي، قد وضع القوى السياسية والحكومة في زاوية ضيقة؛ لأنها (أي القوى السياسية) لا تريد إصلاح وفق المزاج الشعبي (الإصلاح المؤسساتي)، وإنما تريد إصلاح جزئي تكون لها اليد الطولى في التحكم بمفاصله الدقيقة، ولذلك حاولت بعض تلك القوى أن تزج بالقوات الأمنية التي تشرف على أمن المنطقة الخضراء وتعبئ الرأي الرسمي والعام ضد المتظاهرين والتعامل معهم ببطش وقوة، لغرض افشال التظاهرات، ومن ثم افشال مشروع الإصلاح، الأمر الذي زاد من إصرار المتظاهرين على التظاهر ورفع من حدة تظاهراتهم، وأنهم ما زالوا يراهنون على دور قوات الأمن في هذه التظاهرات "وكأنهم" متأثرين بتكتيكات (جين شارب) الذي سبق وأن أكد في كتابه (من الدكتاتورية إلى الديمقراطية)، على أنه: (إذا ما أراد أحد أن ينظم تظاهرة سلمية، يهدف من يرمي بها إلى إصلاح النظام الحاكم، فلابد عليه كخطوة أولى إن يعثر على المؤسسة الأمنية قدر المستطاع، لأن أغلب تفرعات هذه الأجهزة تكون تابعة للقيادة السياسية في الدولة).

وربما يتوهم البعض بأن وضع البلد الحالي لا يسمح بالتظاهر؛ لأن هناك تنظيم "داعش"، الذي يمثل تهديد للأمن القومي العراقي، وعليه لابد من تأجيل التظاهرات إلى مابعد طرد التنظيم الإرهابي، لأن الوقت الحالي غير مناسب للإصلاح والتظاهر، إلا أن هذا الوهم مردود ولا يمكن القبول به؛ لأن العراق بعد العام 2003 لم يشهد وضع سياسي مستقر أو وضع طبيعي؛ وذلك بسبب الفشل السياسي المتكرر الذي انعكس بدوره على الوضع الأمني ووضع البلد بشكل عام. وهذا الفشل (السياسي- الأمني) سببه القوى السياسية الحالية التي فشلت في إدارة الدولة؛ وذلك بسبب حالة عدم الاندماج السياسي بين تلك القوى وعجزها عن إيجاد مشروع وطني جامع.

وهذا الوهم والخداع، خلقته بعض هذه القوى والاحزاب الحالية كمحاولة منها لتوهيم الرأي العام الشعبي لوقف التظاهرات وتسويفها والابقاء على نفوذها المتحكم في مفاصل الدولة الرئيسة. (نعم)، هناك وضع استثنائي للبلد وهناك معارك وعمليات تحرير تسّطّرها القوات الامنية والحشد الشعبي ومن يساندها ضد تنظيم "داعش"، إلا أن هذا لم يكن مانعاً أو حاجزاَ من طلب الإصلاح والتظاهر لتصحيح مسار الدولة العراقية؛ لأن الانتصارات العسكرية لم تحقق شيءً، ولا يمكن أن تتحقق أو تدوم، أن لم تكن مصحوبة بإصلاحات سياسية وأمنية فعلية، وتصحيح للأخطاء السياسية والأمنية السابقة التي انتجت تنظيم "داعش"، والتي جعلت من قوى الأمن العراقية قوات غير مرغوب بها في بعض المحافظات الغربية وخلقت حالة من عدم الثقة بين الأهالي وقوات الأمن، مما خلق شقوق وفجوة كبيرة بين الطرفين في تلك المحافظات، الأمر الذي مّكن تنظيم "داعش" من استغلالها بشكل كبير، ليقوض من خلالها سيطرة الحكومة المركزية في تلك المناطق.

وبعد النجاح الفعلي بين المؤسسة الأمنية وعناصرها وبين المتظاهرين في التظاهرات السابقة (قبل الدخول الثاني للمنطقة الخضراء)، أخذت التظاهرات تأخذ منحى أخر نتيجة خشونة التعامل الأمني مع المتظاهرين، واتهامهم (بالبعثية ووصف البعض منهم بالمندسين) وأن بعضهم يريد العبث والنهب للممتلكات العامة ويهدد أمن العاصمة بغداد، لاسيما وأن جزء من هذه الاتهامات جاءت على لسان رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" وشخصيات حكومية ورسمية أخرى، الأمر الذي زاد من امتعاض المتظاهرين واللجان التنسيقة المشرفة على التظاهرات وزاد من إصرارهم على التظاهر، لاسيما بعد سقوط ضحايا من جانبهم "المتظاهرين" في عملية اقتحام المنطقة الخضراء الثانية.

وهنا تكمن خطورة التظاهرات؛ لأن هذا الاتهام وتسويف المطاليب والمماطلة من قبل القوى السياسية وعدم وجود استجابة فعلية من قبل الحكومة العراقية والسلطة التشريعية لمطاليب المتظاهرين، قد يؤدي بالنهاية إلى نتائج عكسية؛ لأن التظاهرات لايمكن أن تبقى مجرد تظاهرات، وهناك مخاوف كبيرة أن تتحول إلى عصيان أو اعتصام مفتوح أو أن تتحول إلى مواجهة مع قوات الأمنية في بغداد والمحافظات في ظل التسويف المتعمد من قبل بعض القوى السياسية والاحزاب العراقية، التي اخذت تدفع بقوات الأمن ضد المتظاهرين، الأمر الذي ينذر بتداعيات خطيرة على أمن العاصمة ومحافظات الوسط والجنوب.

وهناك شواهد وتجارب سابقة شهدتها الدولة العراقية الحالية على انقلاب التظاهرات إلى مواجهات مسلحة وأدت إلى سقوط محافظات بأكملها بيد التنظيمات الإرهابية، وهذا السيناريو لا ينفع الجميع؛ لأن الكل دفع ضريبة تردي الوضع السياسي والأمني والاقتصادي، ولاسيما بعد ظهور تنظيم "داعش" واحتلاله لبعض المحافظات العراقية.

وعليه على الحكومة العراقية وصانع القرار والقوى السياسية والاحزاب، أن تحتكم إلى المنطق السياسي المعاصر وأن تتعامل مع التظاهرات بحرفية ومهنية عالية، وتباشر بتلبيه مطالب المتظاهرين بعيداً عن المزايدات السياسية والحزبية والطائفية؛ لأن الإصلاح الشامل هو مطلب شعبي لكل الشعب العراقي بغض النظر عن صفة التظاهرات، وأن مطالب المتظاهرين هي مطالب شعبية وإصلاحية بالدرجة الأولى وليست مطاليب حزبية أو فئوية أو طائفية، ولكي تتوازن الكفة مع الانتصارات العسكرية على تنظيم "داعش" لابد أن يكون هناك إصلاح سياسي فعلي وشامل بحجم تلك الانتصارات التي تسطرها قواتنا الأمنية بجميع صنوفها.

* مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق